عبدالزهرة الركابي

راح جيلنا الذي هو امتداد لجيل النكبة والهزيمة، يبرر بقنوط وإحباط، نكوص هذا الجيل على كافة الصعد، وقد تكون ذرائعه على صعيد تحرير الأرض مقبولة على مضض أو نوعاً ما، لكونه مهمشاً ولا يملك من آلية القوة أو السلطة شيئاً، وإن مرد هذا النكوص في هذا الجانب يعود إلى السلطوية التي تتحكم في كل مفاصل المجتمع، حيث تختار ما يناسبها ويبرر وجودها، وتعزف عن التطلعات والأمنيات التي تدغدغ عواطفنا ومشاعرنا، حتى وصل بنا الحال جراء ذلك، إلى جعل مهمة تحرير الأرض تقع مسؤوليتها على الأجيال القادمة، بعدما عجزنا أو تقاعسنا عن تحرير أنفسنا، وبالتالي كيف تتحرر الأرض قبل أن يتحرر الإنسان؟

فجيل النكبة على مراحل زمنية متعددة، ظهرت منه محاولات في هذا الاتجاه أو ذاك، وقد يكون في الاتجاه الفلسطيني في سنوات الثورة والكفاح المسلح وانتفاضة الحجارة، بعض العزاء لهذا الجيل، بيد أن هذه السنوات بحلوها ومرها تلاشت بعدما اخترقتها مواقف السياسات السائدة في المنطقة، ما أدى بالثورة الفلسطينية حيال الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; إلى الركون والانكماش، حتى وصل الحال بهذه الثورة إلى التقوقع في جيبين محاصرين ومخترقين في آن، مثلما هو الواقع السائد في الضفة الغربية وقطاع غزة .

ومما قيل في هذا الجيل ldquo;جيل النكبةrdquo; إنه جيل يورث الأجيال مفاتيح المنازل وأوراق ملكية الأرض، بعدما عجز عن العودة إلى أرضه، عندما احتوته السياسات عبر اتفاقيات السلام المزعوم، فكانت حصة الشعب الفلسطيني منها، اتفاق أوسلو، وهو الاتفاق الذي شكل خديعة للطرف الفلسطيني حتى يومنا هذا، حيث تنصلت الدولة الصهيونية من تنفيذ بنوده، بأساليب التمييع والتسويف والمماطلة، وقد أقر الطرف المذكور بموت هذا الاتفاق، من دون أن يتبنى آلية بديلة وفاعلة، على الرغم من اعترافه في أكثر من مناسبة، بعدم جدوى جولات المفاوضات التي أجراها مع الدولة الصهيونية في أكثر من مرحلة، لا سيما وأن ldquo;إسرائيلrdquo; كانت مصّرة ومستمرة في عمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة .

وعلى سكون جيل النكبة وامتداده، انتفض الجيل الشبابي والمعاصر من خلال الثورة في الشارع وعلى شكل جموع حاشدة بآلاف مؤلفة ومليونية، جيل يتواصل ويتفاعل عبر الإنترنت، جيل على جسامة فقره المادي والاقتصادي، امتلك روحاً عصرية في الوعي والمسؤولية، وهو في أتون هذه الثورة نراه، قد شكل مجموعات لحماية المؤسسات العامة والأملاك الخاصة، حتى سائقو المركبات تحملوا المسؤولية عندما تقيدوا بإشارات المرور في غياب رجال المرور .

جيل حرص على نظافة الشوارع والميادين التي تظاهر واعتصم بها، واتخذ من الروح الثوريّة الجديدة عاملاً ldquo;نابذاًrdquo; للفوارق المهنية والطبقية، من خلال قيام المهندس والطبيب والمحامي مثالاً ldquo;لا حصراًrdquo;، بدور عامل التنظيف ونقل القمامة إلى الحاويات المخصصة لذلك في ميادين وشوارع الاعتصام، كما شاهدناها عبر شاشات التلفاز، ومثل هذه الروح الثوريّة الجديدة والوعي الراقي، كيف لا تنتصر مثل هذه الثورة؟ وكيف لا يتصاعد مثل هذا النسغ في سلطة ما بعد الثورة على صعيد التغيير والإصلاح والتطوير والبحث والتأسيس؟ وكذلك على صعيد تفعيل السياسة الخارجية، على طريق استرجاع واستعادة حقوق الأمة في تحرير الأراضي المغتصبة والمحتلة سواء في فلسطين أو في بلدان أخرى في المنطقة العربية، وعلى كل طرف إقليمي أن يدرك ان الحقوق العربية لن تموت بالتقادم .

وبطموحات هذا الجيل الثائر والاستثنائي، فإن الآمال معقودة عليه، كي يصل إلى آفاق كانت من الأحلام لدى جيل النكبة، وليس هذا بمستحيل على جيل أسقط السلطوية بإصرار وعناد، دفع أكلافها الغالية من دون أن تخمد جذوة الحماس والاندفاع لديه، حتى بلوغه الهدف الواضح مثلما اشتهى وابتغى، لتكون الأحلام لدى جيل النكبة، أصبحت حقيقة وواقعاً سواء في تونس أو في مصر .

إن جيل الثورة والتحدي هذا، بدا مدهشاً ومفاجئاً، عندما زحف للشوارع والساحات بتنظيم وتواصل استثناءيين، ويكمن هذا الإدهاش وهذه المفاجأة، في عوامل عدة، أولاً ldquo;إنه الجيل الذي يجلس أمام شاشات الإنترنت، والذي لم يكن متوقعاً منه النزول إلى الشارع، كتجسيد لخطابه المعروض على شاشات العرض في الإنترنت، على اعتبار أن مستخدمي الإنترنت قد عُرفوا بالتنظير والدعاية والاستعراض، مثلما هو كان شائعاً عنهم، بيد أن تجسيدهم الأقوال والكتابات إلى أفعال وواقع، فند ودحض كل ما كان يُقال عنهم في هذا الجانب، من حيث إنهم لم يكونوا في حسابات السلطوية يشكلون تهديداً ldquo;جدياًrdquo;، لكنهم في الفعل والإقدام خالفوا كل هذه الحسابات والتوقعات، وأبدوا قدرة كبيرة على التحدي والمواجهة السلمية، والتواصل البديل بين الجموع على الرغم من قطع الاتصالات والإنترنت .

وثانياً اتخذوا موقف المواجهة المباشرة من دون تهاون مع القطاعات والنخب التي أظهرت مواقف مؤيدة للسلطة في بداية الثورة، أي ان جيل الثورة كان حاسماً في الفرز والثبات على الموقف وعدم فسح المجال للمتقلبين في المواقف للتسلل إلى صفوفهم .