اهم انجاز لهذه الثورة التي تفجرت في ليبيا منذ يوم 17 فبراير الماضي، هو انها لم تكن تحديا فقط لمعطيات الواقع السياسي المحلي، ومنازلة النظام السياسي بمؤسسات حكمه الاجرامية واجهزة القمع البوليسية التي يعتمد عليها وسياسات الترويع التي يقوم بها بادارة رجل مصاب باقصى امراض السايكوباتية واكثرها تركيبا اجراميا لم يعثر لها عالم الطب على علاج حتى الان، وانتصرت على عامل الخوف الذي كان سنده الاول في الاستبداد والطغيان، اهم انجاز يفصح حقا عن جانب من عبقرية هذه الثورة، هوانتصارها على مخططات دولية، ودوائر استخبارية عابرة للقارات، وقوى عالمية ذات سطوة ونفوذ عملت علي تكريس هذا الواقع المقيت في العالم العربي، وصادرت ارادة المواطن فيه.
اننا نعرف على وجه اليقين ان حاكم ليبيا الذي جاء من كهوف التخلف والظلام والجهل، والعته التاريخي اذا صح التعبير، ليبني خيمة الاستبداد والسفه والحماقة، على تخوم عصر يتفجر علما وانوارا وينبض بالفكر الجديد المواكب والمرافق لعصر الفتوحات العلمية، لم يكن بالتاكيد قد وصل الى الحكم بارادته وقواه الذاتية، ولم يبق هذا الرقم القياسي من السنين دون دعم من قوى تعمل في الظلام ودوائر تتحرك داخل انفاق السلطة المعتمة، وليس في اروقة مضيئة معروفة، وكما يقول تشومسكي الكاتب الامريكي في اطروحاته المناهضة للسلطة في بلاده امريكا، ان اهل القرار السري الفاصل الحاسم في مقدرات دول الغرب، ليس دائما اولئك الرجال المنتخبين الذين يجلسون في مبنى الكونجرس ويجلس رئيسهم في البيت الابيض، ولا من يجلسون في مجلس البرلمان البريطاني ورئيسهم في 10 داونينج ستريت ولا البرلمان الفرنسي ورئيسهم في قصر الاليزيه وانما هناك دوائر استخبارتية واخرى ذات طابع سرى وثالثة قد تكون في مصارف او جمعيات ومحافل مثل الايباك في امريكا والمحافل الماسونية في بقية الدول وقد تكون المافيا في بعض البلدان، ورجال ونساء لم ينتخبهم احد ولا يرى وجوههم احد في الاعلام، ويسميهم رجال لا وجوه لهم، هم كما يقول اصحاب القرار، وهم الذين يمكن ان نسند اليهم الوصول برجل مثل القذافي الى حكم ليبيا، ورجل مثل صدام الى حكم العراق ورجل مثل نورييجا الى حكم باناما، واسميت هؤلاء الثلاثة بالذات لانني قرات لعميل سابق في المخابرات المركزية الامريكية بان عمالة هؤلاء الرؤساء الثلاثة كانت معروفة لدى العاملين في تلك الوكالة وكانوا يسمونهم quot;our boys quot; كما جاء في تعبيره، ويضيف بانه عندما تكون هناك مشكلة نريد معالجتها نبحث عن قربها من واحد من هؤلاء الثلاثة لنعهد اليه بان يتولى تدبيرها او تضبيطها طبقا للمخطط الامريكي، ولعل احد الباحثين في ارشيف الوكالة او واحدا من عملائها السابقين او المؤرخين لها يخبرنا بمثل هذه المهمات التي قام بها رئيس مثل صدام، او اخر مثل القذافي، ويمكن لنا جميعا ان نتكهن من خلال ما صنعه الاثنان من خراب في بلديهما وخراب في المنطقة الاقليمية التي يعيشان فيها طبيعة هذه المهام.
وقبل عدة اشهر من قيام الثورة الليبية ضد القذافي خرج علينا الصحفي والمحلل السياسي السيد محمد حسنين هيكل يروى طرفا من ذكرياته عن بداية وصول القذافي الى الحكم، وصلته بالانقلاب الذي قام في ليبيا في 1سبتمبر 1969،واسمى ذلك الانقلاب الثورة العذراء، وكيف نجحت رغم انها جاءت ضد ارادة قوى كبرى لها قواعد عسكرية في ليبيا مثل امريكا وبريطانيا، وان نسبة نجاحها كانت واحدا في المليون، معيدا ما قاله له القذافي زورا وكذبا وبهتانا، وتحققت المعجزة، بان نجحت الثورة ويعني الانقلاب، وكانت المكافأة بعد ذلك الحديث، ان ارسل له الاخ العقيد طائرة لزيارته في ليبيا ليعبر له عن عظيم امتنانه بحديث صديقه هيكل، دون ان نعرف بعد ذلك ماذا تم في تلك الزيارة، ولكنني اقول ان السيد هيكل في هذا الحديث كان مجاملا للحاكم الليبي ويقول في حقه كلاما لم يقله من قبل، وعن عذريته وطهارته عندما جاء للحكم بما يتناقض تناقضا كاملا مع ما قاله السيد هيكل وكرره عدة مرات وانه لم تكن هناك مسالة اسمها واحد في المليون، لان النجاح الذي رتبه سفير امريكي شهير بتاريخه في ترتيب الانقلابات اسمه ديفيد نيوسم كان يضمن للقذافي النجاح مائة في المائة، واقف هنا فقط امام ما قاله السيد هيكل نفسه في كتابه مقالات يابانية، عندما اشار الى القذافي صراحة باعتباره رجل الاستخبارات الامريكية وقال حرفيا ان كل محاولة انقلابية ضد القذافي وكل مؤامرة لازاحته عن الحكم كان يتم كشفها من قبل المخابرات المركزية الامريكية، ولان المقالات التي يضمها الكتاب كانت قد نشرت في صحيفة يابانية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فقد جاء في المقال ان هذه التغطية الامريكية الاستخباراتية لهذا العميل حسب علمه كانت موجودة منذ تسنمه قمة الحكم في ليبيا الى حين الغارة الامريكية عليه في ابريل عام 1986ولم يقل اذا كانت هذه التغطية قد استمرت او لم تستمر وانما قال بان معرفته بالامر تنتهي عند هذا الحد ولا ادري اذا كان قد حصل فيما بعد على تحديث لهذه المعلومات او لم يحصل، الا انه للاسف في شهادته قبل الثورة بايام لم يشر اطلاقا الى هذا الكلام الذي جاء على لسانه وسال به قلمه واعلنه على العالم في صحيفة دولية اولا وفي كتابه ثانيا كما لم يتطرق، وهو الرجل المشهور بعودته الى الوثائق، الى عدد لا يحصى من الوثائق الماخوذه من اضابير المخابرات الامريكية والبريطانية والسفارات الغربية التي اوردها المؤرخ الليبي لهذا الانقلاب الدكتور محمد يوسف المقريف في اكثر من مجلد اصدرها عن تاريخ هذا الحاكم واسلوب مجيئه الى الحكم وكيف ادار البلاد والعباد لصالح مشروع ظلامي، بمقاييس الظلام والسرية في اجهزة العالم الاستخباراتية ومحافله الماسونية واقسام الاعمال القذرة في دوائر مثل الموساد والايباك وغيرها، بل واشارت سلطات امريكية الى هذه العمالة وبشكل عابر، وليعد السيد هيكل الى هذا المصدر الامريكي، باعتباره الاكثر احتفاء بالوثائق الامريكية واعتبارها مثالا للمصداقيه، الى عدد خاص عن ليبيا اصدرته مجلة نيوزويك الشهيرة عام 1981 وجعلت غلافه صورة السيد العقيد واسمته
The most dangerous man in the world
اخطر رجل في العالم، وفي هذا العدد اوردت قصة الاتصالات التي اجرتها وكالة الاستخبارات الامريكية من خلال عميل كان يعمل في السفارة الامريكية من اصل لبناني ويتكلم العربية، مع السيد القذافي، ويذكر الاخ العقيد نفسه في ذكرياته عن الترتيبات التي اوصلته للسلطة، لقاء جرى بينه وبين السفير ديفيد نيوسم في سبها، وكان صحبة مجموعة من زملائه اهل الانقلاب، ويقول ان اللقاء جاء صدفة، ولعله كان كذلك من قبل مجموعة الانقلاب اثناء تحضيرهم له، ولكن ديفيد نيوسم ذهب للمعاينة الشخصية لهذه المجموعة لكي يعطى مصادقته النهائية علىها، حيث كان يتعامل معهم من خلال عناصر الاستخبارات وقد حان في تلك الساعات الاخيرة من تحضيره للانقلاب وقت الفحص الشخصي، قبل ان يصدر الامر بالانطلاق، وللموضوع جوانب كثيرة وخلفيات وتداعيات لا يمكن احتوائها في المساحة المخصصة لهذا المقال وساعود اليها باذن الله في مقالات قادمة، اما الان فانني احيل القاريء الى ترسانة الكتب التي تفضح وتكشف وتعري هذا النظام للاخ المناضل والباحث الاكاديمي ومؤسس الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا الدكتور محمد يوسف المقريف وهي quot;مأساة ليبياquot; وquot;الطغيان الثوري وعبقرية السفهquot; وquot;القذافي من مخبر الى رئيس جمهوريةquot; وكلها منشورة في فصول في مواقع الانترنيت ويسهل العثور عليها من خلال محرك البحث جوجول، و قد نشر بعضها تحت عنوان صفحات من تاريخ النظام الانقلابي في ليبيا وهناك من الوثائق ما يبطل بطلانا كاملا كلام السيد هيكل الغريب عن الموجة العذراء التي لم تكن للاسف الشديد غير عهر سياسي وعار وطني وقومي يشين كل من روج له وناصره من انظمة وقوى سياسية.
هذه هي عبقرية الثورات العربية المتثالية بدءا بالثورة التونسية التي اقتلعت نظاما قمعيا غاشما فاسدا، ورئيس نظام تجمع كل الدوائر السياسية في العالم، انه جاء الى تونس بناء على اجندة غربية امريكية موسادية ماسونية، وقد مر بكل الاختبارات وهو يعمل ملحقا عسكريا في الرباط حيث تم توثيق العلاقات بينه وبين وكالة الاستخبارات المركزية والدوائر المتعاونة معها، وتم العمل على تكليفه بمهمة سفير في بولندا في اوقات عصيبة لكي يكون عينا من العيون التي تقوم بالتسجيل والنقل والرصد للمعلومات التي تستلمها منه الوكالة الامريكية ذاتها، ثم بدا تحضيره للاستلام من رئيسه العجوز الذي وصل ارذل العمر، ليقود المسيرة لصالح اسياده في تلك الدوائر، واذكر هنا لقاء مع الكاتب والمؤرخ التونسي الدكتور الحبيب الجنحاني الذي التقيته عشية تعيين بن علي وزيرا اول في تونس، فقال لي وكانه يقرأ في بلورة سحرية، ان هذا الرجل جاءت به الاجهزة الغربية، ليقوم بازاحة الرجل العجوز جانبا والبقاء مكانه، وحصل بالضبط ما تنبأ به صديقي الاستاذ الجامعي والكاتب المعرف، وكان لابد كما كتبت في مقال سابق ان تستجيب هذه الدوائر التي مكنت له من الحكم لعاصفة الثورة التي هبت للاطاحة به وان تدعن لسحب عميلها من حكم البلاد.
وتكرر الامر مع مصر، فلم يكن مبارك ونظامه، بعيدا عن مباركة الغرب وتاييده له، وكان في جانب منه امتدادا للسادات وسياساته الموالية للغرب، وان تبقى تلك السياسة دون السادات كشخص بطبيعته المتقلبة التي كلفته دفع حياته، لان الغرب وربما اسرائيل التي اخذت منه اتفاقية كامب ديفيد لم تكن تامن لانصياعه لكل ما تريده منه ومايريده الغرب على طول المدى، لانه رجل كانت له قناعات، واذا كان قد زار اسرائيل وعقد اتفاقه معها بوحي من هذه القناعات، فبشيء من التعديل في قناعاته يمكن ان يفعل شيئا معاكسا، وتم افساح الطريق من بعد ازالته، لنائبه الذي يسير على الطريق المرسوم دون ان تكون له اجندات ولا اجتهادات غير اخذ النصيب الاوفر من كعكة الحكم وتوزيع الباقي على الانصار والمحاسيب. ولم يكن السيد مبارك، اطلاقا يشك في مباركة الغرب له، وموقفه الداعم لبقائه في الحكم، الى حد انه اشتط في الدلال، وطلب ان يبقى الحكم مؤبدا في عائلته، ولكنه اطلاقا لم يكن يظن ان الاطاحة بمشروعه سياتي من ميدان التحرير ومن شباب كلنا خالد سعيد وناشطي كفاية وان الشعب سيتحرك من ورائهم بملايينه الهادرة، ويتم تقويض نظام كان يتمتع بثقة الدوائر الغربية وحراستها له.
ثم جاءت الثورة المستحيلة، التي لم تكن موجودة في خيال احد من اهل النظام، واربابه في الشرق والغرب، فرغم ان اصحاب الانقلابات الذين تاتي بهم امريكا، يستنفذون اغراضهم بعد عقدين او ثلاثة عقود، فقد تجاوز نظام القدافي اربعة عقود، وما زالت صلاحيته مستمرة بالنسبة للغرب، رغم انه فقد هذه الصلاحية بالنسبة لدوائر وقوى كثيرة اقليمية ودولية، رأت وجوده نشازا، بعد انتهاء الحرب الباردة، والتحالف الدولي ضد الارهاب الذي كان هذا الرجل من مموليه واصحاب المبادءة في اثارته في اماكن كثيرة من العالم، كانت صلاحيته تتجدد لدى دوائر الاعمال القذرة في وكالة الاستخبارات والموساد والماسونية العالمية والايباك وغيرها لانه كان يعرض الخدمات بل والاموال مقابل ان يبقى في الحكم، مسنودا طبعا بما يصل الى مليار دولار اسبوعيا من دخل النفط والغاز، يشتري به اشخاصا من اصحاب النفوذ الدولي مثل توني بلير، ويغري به مناضلا عظيما مثل نيلسون مانديلا، ويدعى دعم مشاريع مفكر حر مثل روجيه جارودي، فما بالك بجيش المرتزقة من السياسيين والناشطين في الاعلام والسياسة واعضاء الكونجرس وجمعيات مثل جمعية الزنجي الاحمق لويس فركان في امريكا ورودي جولياني الصهيوني المافيوزو الذي اعطاه القذافي مليار دولار، دون الاعلان عنها، او وصول اي خبر بها للاعلام ولم اسمعها الا من مصدر من داخل قصر الحكم بحجة دعم المدينة بعد اسقاط البرجين، ويتجول فوق خريطة العالم شرقا وغربا يشتري البقاء في الحكم، وقد لا يصدق الناس انه قام بدفع مبلغ يزيد على اربعة مليار دولار لانقاذ شركة يملكها نائب الرئيس الامريكي السابق السيد ديك تشيني، في وقت كانت القطيعة قائمة بين البلدين، ودعنا من عقد كان بينه وبين شركة يملكها الايطالي برودي الذي دعاه لزيارة الاتحاد الاوروبي بسبب هذه الشراكة وشركة اخرى مع المافيوزو الايطالي السيد اندريوتي، كما ان علاقته العلنية مع بيرلاسكوني وشركاته المتعددة صار موضع مقالات يومية في الصحافة الامريكية، ويبقى القول بان ما خفى كان اعظم، واعظم بكثير جدا جدا مما نعرف، في هذه الاقبية المظلمة التي تبيع الرضا والموافقة على بقاء الطغاة والمجرمين في الحكم رغم ما يقترفونه من مجازر في حق شعوبهم ولا يزال حتى الان وفي هذه اللحظات التي يتقوض فيها نظامه وينهار تحت ضربات ابناء الشعب، يتوسل الى تلك الاوساط الدولية واقسام الاعمال القذرة فيها ويستنجد بها لانقاذه ويحاول ان يشتري ما بقي معه من اموال الرضا الذي لم يعد ممكنا ان يفيده، فقد مضى وقت الانقاذ وعليه ان يواجه النهاية القريبة له ولحكمه وتخلى عنه اقرب حلفائه مثل بيرلسكوني، وانشق عنه مندوب الموت الذي كان يرسله لقبض ارواح المعارضين السيد كوسه اذا كان انشقافه صحيحا.
نعم من هنا تتاكد عبقرية هذه الثورة التي قامت في وجه كل هذه القوى المرعبة التي حشدها نظام الاجرام والقمع والتامر، لتاكيد وتمتين بقائه في الحكم، ولكن ارادة الشعوب من ارادة خالق الكون الذي اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون، ونظام القذافي الى انتهاء وزوال، والشعب قادم باذن الله لاستلام وطنه المخطوف، وحياته المخطوفه، ومقدراته وموارده التي اهدرها حاكم من اعتى واكثر الحكام قسوة في التاريخ.
التعليقات