ما كنت اظن انه ياتي يوم اشكر فيه الادارة الامريكية التي تجرعنا على ايديها الغصص والمواجع والويلات في عالمنا العربي على مدى عقود طويلة ثقيلة، عن خير قدمته للمواطن العربي. ويمكن القول ان آخر عهد لشعوبنا بتوجيه الشكر لادارة امريكية كان ايام الادارة التي قادها الرئيس الامريكي دوايت ايزنهاور في خمسينيات القرن الماضي، وموقفه المناويء للاعتداء الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا واسرائيل على مصر عقب تاميم قناة السويس، كما يمكن اعتبار تلك الادارة التي انتهت ولايتها بنهاية عقد الخمسينيات هي اخر ادارة تقوم باي عمل يستحق الشكر قدمته الادارة الامريكية الى الشعوب العربية، فكل ما جاء بعد تلك الادارة من ادارات كانت تحمل عداء سافرا لاشواق وامال الامة العربية، خاصة فيما يتصل بالقضية المركزية للامة العربية وهي قضية الصراع العربي الاسرائيلي والانحياز الكامل والعلني لدولة اسرائيل، واتخاذ مواقف مؤيدة لها ومعادية للاقطار العربية، بل احيانا معادية للمجتمع الدولي كله عندما يقف موقفا عادلا من قضية عربية، كما يتجلي في حالات تتوافق فيها دول العالم على قرار يكبح السياسات العدوانية الاسرائيلية ضد اهل فلسطين و يتبلور هذا التوافق في قرار ينال موافقة اعضاء مجلس الامن، فاذا بدولة واحدة تخرج على الاجماع، وتقوم بابطال القرار بسبب ما تملكه من حق الفيتو وهو ما تكرر في كل العهود والادارات خلال الخمسين عاما الاخيرة، ولعل اتعس لحظات هذا الانحياز واكبرها واكثرها ظلما للعرب وامعانا في اهانتهم واذلالهم جاء اثناء وبعد حرب الخامس من يونيو عام 1967، حيث كانت مشاركة امريكا في هزيمة العرب، ثم تاكيد وتعميق تلك الهزيمة بمزيد المعونات والتاييد لاسرائيل وتكريس الاحتلال ومنع القرارات الصادرة عن الهيئة الاممية فيما يتصل بمسح اثار العدوان، تجسيدا لحلقة من حلقات الكره والعداء التي حملتها سياسات الادارة الامريكية لطموحات وامال الشعوب العربية.
وجاءت لحظة تاريخية ثانية تمثل فرصة يمكن ان تسدي فيها الادارة الامريكية مكرمة للامة العربية تمسح بها اكداس المظالم التي قدمتها لها، حين انطلقت صرخات النجدة من جرائم الديكتاتور العراقي صدام حسين لانقاذ شعبه من نزيف الدم وجبال الجماجم التي اقامها فوق ارض العراق وانقاذ شعوب صغيرة مجاورة له مثل بعض دول الخليج التي اراد التهمامها بدءا بالكويت، وكان موضع امتنان من شعوب المنطقة ان تنشيء امريكا تحالفا لردع هذا الطاغية عند اعتدائه على الكويت، ولكنها ما ان اخرجت جيشه من مناطق النفط في الكويت، حتى عادت لمناصرته وتثبيته في منصبه وحمايته من الهبة الشعبية التي انطلقت للاطاحة به من الجنوب، لتبرهن عبر ذلك الاجراء المعادي للشعب العراقي، ان الرجل صنيعتها، وعميلها، بل الوحش الذي تربيه ليؤدي اعمالا وحشية بالنيابة عنها، وما ان مد براثنه خارج القفص حتى ضربته ضربة مؤلمة فوق هذه البراثن ليلتزم بالبقاء في القفص والتهام فرائسه من ابناء شعب العراق بداخله، وبعد ان استنفذ الطاغية العراقي اغراضه بالنسبة لها، ارادت ان تلبي مرة اخرى نداءات النجدة التي اطلقها ابناء العراق، فادعت انها جاءت لانقاذهم ومعاونتهم في التحرر من قبضته ثم اذا بها تؤدي المهمة باجندة اجرامية استعمارية صهيونية، جاءت وبالا على شعب العراق، وسببت من الويلات بما يزيد اضعاف المرات عن الويلات التي تجرعها هذا الشعب العريق النبيل على يد السفاح ومصاص الدماء السيد صدام حسين وبنيه وجلاوزته من امثل على الكيماوي وغيره، ممن ذهبوا معه للاقامة في جهنم الحمراء، تلاحقهم لعنة ملايين الضحايا.
ولم يكن تنصيب صدام حسين في الحكم، الا جزءا من استراتيجية امريكية لابتلاء الوطن العربي بالطغاة بدءا كما يقول العميل الامريكي وضابط المخابرات المركزية الامريكية في المنطقة مايلز كوبلاند، من انقلاب حسني الزعيم في سوريا وعلى مر العقود التي تلت ذلك الانقلاب، فما ان يظهر ديكتاتور طاغية حتى تجد فيه امريكا حليفا وصديقا، يستقوى بها، ويعزز مكانته باجهزة واموال وعون مادي ومعنوى ياتيه من امريكا، لقهر ابناء شعبه وحبس ارادتهم في قمقم مخابراته واجهزة القمع والتسلط التي تعطيها له، وفقا لسياسة قديمة عريقة اتبعتها الادارات الامريكية هو ان عميلا طاغية يمشى حسب ارادتها خير من شعب حر قد تفلح في اقناعه بجدوى الاهداف والمصالح التي تريدها او لا تفلح، ولم يكن ليستمر نظام الرئيس مبارك في مصر، ولا نظام الرئيس زين العابدين في تونس دون دعم ومباركة وتاييد وعون ومساعدة من الادارات الامريكية المختلفة، التي لم تكن اطلاقا تنصت لصرخات الالم ونداءات النجدة التي يطلقها المواطنون تحت كابوس هذين النظامين.
ما حدث في الايام الاخيرة وبعد الشرارة المقدسة التي اطلقها شهيد الثورة العربية محمد البوعزيزي في تونس، كان موقفا جديدا فيما ارى، جعل الادارة الامريكية في عهد الرئيس باراك اوباما، ولاول مرة منذ نصف قرن ونيف، تلتقى في تصريحاتها وسياستها المعلنة مع اهداف الثورة الشعبية ومطالب الجماهير العربية الثائرة في البلدين الكريمين تونس ومصر، وتنحاز انحيازا واضحا وصريحا الى صف الجماهير في مواجهة حكام طغاة طالما تمتعوا بتاييدها ومؤازرتها وحمايتها، وكانت قادرة هذه الادارة تحت ضغط الجماهير في الدولتين ودعوة هذه الجماهير للتحرر والتغيير والانعتاق من ربقة الطغيان، ان تنتبه لما كانت سادرة فيه من خطأ، فتقوم بتصحيح موقفها بسرعة فائقة ومتوافقة مع تواتر الاحداث الثورية وسرعة تدفقها، والبدء بممارسة ضغطها على هؤلاء الحكام بضرورة الاعتراف بما يريده الشعب وتلبية مطلبه بالرحيل عن مناصبهم التي تابدوا فيها، والحيلولة دون عرقلة التيار الجارف نحو بناء نظام جديد حر وديمقراطي.
نعم، لقد شاب هذه المواقف الامريكية الجديدة شيء من البراجماتية، ففي كلا الحالتين، في حالة الثورة الشعبية التونسية وحالة الثورة الشعبية المصرية، بدات بكثير من التحفظ، ومسك العصا من الوسط، بل ان وزيرة الخارجية السيدة هيليرى كلينتون ظهرت في اول تصريح لها عن مصر تعبر عن ثقتها في النظام المصري، وقدرته على اجتياز الازمة باعتباره نظاما قويا قادرا على الصمود، ولكن الموقف تغير بسرعة قوية، كما حدث من قبل مع تونس، بسبب قوة الزخم الشعبي واصراره على فرض ارادته على الحكام وانطلاقه سيلا هادرا لازاحتهم من الطريق، وخرجت وزيرة الخارجية تؤيد التغيير، ثم خرج الرئيس باراك اوباما في اول تصريح له يشيد اشادة قوية بشباب المتظاهرين وشجاعتهم واصرارهم على الصمود في وجه الظلم والعسف وحقهم في احداث التغيير نحو الحرية والديمقراطية، وتوالت مواقف الادارة الامريكية عبر رئيسها الذي مارس ضغوطه على الرئيس المصري يطالبه بالرحيل وضغوط وزيرة خارجيته السيدة هيليرى كلينتون وضغوط نائبه السيد جوزيف بايدن، وتجاوبت اصداء هذه المواقف مع مواقف اخرى في الكونجرس لزعماء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي يؤازرون الثورة ويؤيدون رموز المعارضة ويطالبون بسرعة التغيير وانجاز المطالب التي يرفعها المتظاهرون كما يطالبون بحماية هؤلاء المتظاهرين من عملاء السلطة وجلاوزتها وعتاة مجرميها وبلطجيتها، وحقهم في التعبير عن انفسهم. موقف جديدة للادارة الامريكية، وموقف جديد لمؤسسات السلطة في امريكا حكومة وبرلمانا، بل وللصحافة الامريكية التي رغم تراث الديمقراطية، ظلت دائما قريبة من الادارة في مواقفها المجافية لطموحات الشعوب العربية، الا هذه الايام، عندما صارت صحافة ووسائل اعلام مرئية، تنقل بامانة وصدق نبض الشارع العربي كما تبدى في ثورتي مصر وتونس.
طبعا افهم التوجس الذي يبديه الكثيرون من كل ما يصدر من الادارة الامريكية، حتى لو كان تاييدا ومناصرة للشعوب، وخوفهم من ان يكون هذا التاييد مجرد نوع من الخداع والتحايل للالتفاف حول مطالب الشعوب لتسخيرها بالتالي في الاتجاه الذي يخدم الاهداف الامريكية، فهو توجس مشروع ومخاوف لها ما يبررها، املتها خمسة عقود من الاجحاف والظلم الذي مارسته الادارة الامريكية ضد امال شعوبنا، مما اورث هؤلاء الناس المتشككون، مقدارا كبيرا من عدم الثقة في كل ما ياتي من الادارة الامريكية، ولكننا نقول ان ادارة الرئيس باراك اوباما جاءت ترفع شعارا كبيرا واحدا، حصلت به على تفويض الناخب الامريكي، هو شعار التغيير، فليس غريبا ان يكون الموقف الجديد من طموحات الشعوب العربية جزءا من هذا التغيير، كما انه ليس بالضرورة ان تكون اهداف شعوبنا ومصالحاها في تناقض دائم مع اهداف ومصالح امريكا، اذ من الممكن ايجاد هذه المساحة التي تلتقي فيها المصالح والاهداف، دون ان يجور احد على الاخر، او تاتي مصالح طرف على حساب مصالح الطرف الاخر، علاقة جديدة يمكن ان طربتنا مع امريكا كما هي العلاقة التي بدات تتبلور بين جنوب شاطيء البحر الابيض المتوسط العربي، وشماله الاوروبي، بحيث ننسج علاقة مماثلة للشاطيء العربي للمحيط الاطلسي مع شاطئه الامريكي، وهو كلام اقوله من موقع كاتب يحتفى بالجوانب الانسانية في التقريب بين الشعوب، لا من موقع خبراء السياسة ورسم الاستراتيجيات الذين قد يرون عوائق كبيرة يجب ازالتها قبل الوصول الى مثل هذا التفاهم الانساني المشترك. ولهذا فانني ساكتفي فقط بالترحيب والاحتفاء بما سمعته من تصريحات للادارة الامريكية الجديدة على لسان رئيس هذه الادارة ونائبه ووزيرة خارجيته، تؤيد المسار الذي تمضي فيه الثورة الشعبية في كل من تونس ومصر وتتفق مع ما قاله باراك اوباما من وعود للشعوب العربية عندما خاطبها من فوق منبر جامعة القاهرة، وما نأمله حقا من ادارة اوباما هو ان يتطور هذا الموقف الى سلوك امريكي فاعل وثابت وليس لحظويا او ظرفيا يتوافق مع ما نسمعه من كلام وتصريحات عن قيم الحرية والديمقراطية ليصب هذا الجهد في دمقرطة الاقطار العربية، وخلق نوع من الاجماع العالمي على معاونة الشعوب العربية في مرحلة التحول القادمة، باتجاه الدفع بالانظمة الجمهورية على ان تكون انظمة تحت المحاسبة والقانون والاختيار الشعبي عبر صناديق الاقتراع، وان تدفع الانظمة الاميرية والملكية نحو التحول الى امارات وملكيات برلمانية دستورية تقتصر فيها سلطة الامير او الملك او السلطان على الدور البروتوكولي الرسمي وتصبح الحكومات هي التي تتولي تنفيذ سياسات ترسمها برلمانات منتخبة من الشعب، فهل نشهد في عهد الرئيس اوباما رعاية امريكية لمثل هذا التحول، هذا هو الدور المطلوب الذي يمكن ان تكفر به امريكيا عن الخطايا الكثيرة التي ارتكبتها ازاء الشعوب العربية عندما اعانات الطغاة وساعدتهم على ارساء دولة الطغيان في العالم العربي منذ ان بسطت سلطانها على المنطقة وريثة لدول الاستعمار القديم عقب الحرب العالمية الثانية.