رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الحادية والعشرون: النجع يحتفل بعيد العرش البريطاني

في مساء اليوم التالي عاد اوسادن من مهمته الاستطلاعية، عاد دون ان يكون على علم مسبق بانتهاء مهمة القوة الامنية القادمة برئاسة السردوك، عاد مع صاحبة استجابة لطبيعة المهمة التي تقتضى العودة كل ثلاثة ايام لابلاغ قائد الحملة بنتائج الاستطلاع، وعندما لم يجد قائدا ولا حملة، بسبب الغاء العملية، رجع الى خيمته للاغتسال واخذ قسطا من الراحة قبل ان ينضم في اول الليل الى مجلس شيوخ النجع، في حين اتجه رفيقه في المهمة عائدا الى قواعده في مزده، وكان شيوخ النجع ينتظرون قدومه بكثير من الفضول لسماع تعليقه على ماحدث، باعتباره معنيا اكثر من غيره بما جاءت من اجله هذه الحملة، وقادرا على فرز الباطل من الحق فيما قيل عن هذا الخطر القادم من جنوب الحمادة الحمراء وهروجها السوداء، فاخبرهم بانه ذهب في هذه المهمة وهو غير قادر على تصديق ما قاله قائد المنطقة الامنية، لانه ادرى من غيره بقوة اهل قبيلته، اذ انه ينتمي الى نجع صغير من نجوع الطوارق لا يملك مائة رجل مسلح، ويعرف ان السلطان تانان غير قادر على تجهيز مثل هذه الحملة، ولا وجود لاسباب وجيهة تجعله يسعى للتحالف مع نجوع قبائل اخرى لتجهيزها، فهو ليس في حرب مع احد، ثم انه كان غاضبا لما حدث مع ابنته، وفي غمرة الغضب استجاب لتحريض عدد من فرسان القبيلة على راسهم رجل هو يوبا، كان يسعى للزواج من تانيرت، ورفضته، فكيف وقد انتهت لحظات الغضب وزال تحريض يوبا، يلجأ هذا السلطان الحكيم الى ارتكاب مغامرة كهذه، وتجريد حملة من مائة فارس لا وجود لهم تحت سيطرته، لمجرد الانتقام من رجل تزوج من ابنته، ولكنه مع ذلك، لم يستطع ان يواجه قائد المنطقة الامنية بشكوكه، بل وحاول اقناع نفسه بان الرجل ما كان لياتي بكل هذه القوة الا لان هناك خطرا تغيب عنه دوافعه، وربما لديه معلومات لم يفصح عنها، جعلت هذا الخطر محتملا، الا انه يقول لشيوخ النجع، انه ذهب لتحويم هذه الارض، والتقى ببعض الرعاة، واحدهم راعيا لابل جاء يسوقها من مسافات بعيدة في عمق الجنوب، لم ير ولم يسمع ولم يتناهى الى علمه اي خبر اواية كلمة عن قوة انطلقت من نجع السلطان تانان، وقد ازداد اوسادن اقتناعا بعدم وجود مثل هذه القوة عندما تبادل حديثا على مدى ثلاثة ايام مع زميله في المهمة الاستطلاعية، وهو رجل صاحب فهم وادراك ويعرف ما يدور في كواليس ادارة الامن في مزده، بانه لا وجود في رأيه لمثل هذا الخطر، وانما هي قوة استنفرها الرائد السردوك، لاستعراض العضلات امام زعماء قبائل القبلة، واظهار نفوذه وقوته، وترهيب من يستهين بقوة الحكومة وقلة افراد الشرطة وفقرها في السيارات والسلاح، في هذه المنطقة الامنية بالذات، ليقول انه قادر في لمح البصر على تحضير قوة ضاربة كالتي احضرها، وقد جاء بها هنا لخدمة غرض آخر غير الغرض الذي اعلن عنه، والذي لم يكن الا تمويها وستارا وتغطية لعقد الاستعراض التي تتحكم في سلوكه، ولكنه سيواصل من باب الاحتياط فقط، الذهاب في مهمته الاستطلاعية، لثلاثة ايام اخرى، ومع ذلك يقول، لكل قاطني هذه المنطقة، بان لديه كامل اليقين، وكامل القناعة، بعدم وجود اي خطر على الاطلاق، طالبا ان ينام جميع الناس هانئين، وانه يذهب في مهمته الاستطلاعية لا بهدف اثبات العكس، لانه تابث لديه، ولا ليقطع الشك باليقين لانه لا شك يراوده، وانما فقط، لاحتمال ان يكون هناك بعض الشك لدى بعض الناس، ممن اساءهم هذا القطع المفاجي لمهة القوة الامنية، ليثبت لهم ماهو ثابت لديه، وهو ان لا وجود لمثل ذلك الخطر، ولا سبب لمثل ذلك الخوف الذي اثاره في النفوس الرائد صالح السردوك.

20
لم يبق في ذهن بانايوتي من هذا الصخب، الا تلك الكلمة، او الكنية التي وصف بها السردوك نفسه، والتي قال ان الاخرين يصفونه بها، وهي quot;طائر الشرquot;، والتساؤل بينه وبين نفسه عن هذا الشر كيف سيأتي، واي شكل سيأخذ، وكم يحتاج من وقت لوصوله اليه، وما هي الذريعة او الذرائع الي سيستخدمها السردوك لاطلاق شره عليه، فهو يعرف مدى ما احس به الرجل من جرح لكبريائه، وما اصابه من صدمة في عواطفه، ويعرف ايضا ما يملكه من قوة لارتكاب الشر، وما يقع تحت يده من مصادره، وما يستطيع ان يبرهن به على جذارته بالاسم الذي اعطاه له الناس، طائر الشر. ورأى ان اليات الدفاع في عقله، تضع في مواجهة طائر الشر، واسمه الذي يبعث شحنات التوتر والقلق في نفسه، اسما اخر يستطيع ان يسميه طائر الخير، ويراه مصدرا للراحة والطمأنية هو اسم quot;اوسادنquot;، الذي يستطيع ان يصنع به قوة ايجاب تمثل ما يمكن ان يكون مضادا لما يمثل السردوك من قوة سلب، انه يرتاح للرجل، وسعى فعلا لتوثيق العلاقة به، وتوثيق العلاقة بين ابنته انجيليكا وزوجة اوسادن تانيرت، وخلال الايام الثلاثة الاولى التي غاب فيها تطوعا للقيام بالمهة الاستطلاعية، انتقلت زوجته للاقامة مع ابنته في بيتها، واستمرت عندما عاد لمواصلة المهمة الاستطلاعية لايام اخر، وهاهو الان، وهو يجلس في مكتبه، يسمع جملة اصوات تتناهى اليه، يغلب عليها ارتفاع بعض الاصوات الانثوية، يستطيع تمييز صوت ابنته انجيليكا من بينها، واثقا ان تانيرت موجودة معها، وفعلا هذا ما حدث، فقد خرج يستطلع الامر، وراى شلومو التاجر اليهودي،المتجول ببغلته بين نجوع البادية، قد وصل الى الوكالة , واستقطب فور وصوله عددا من الاطفال والنساء، وشلومو لا ياتي الا في فترات متباعدة، لانه يعرف ان الوكالة تملك متجرا كبيرا لا مجال للدخول في منافسة معه بما يحمله من بضائع داخل عديلتين فوق ظهر بغلته، فيترك الوكالة للتجول بين بقية النجوع، لانها لا تملك متاجر مثلها، ومع ذلك فان حنكته وتجاربه تجعله يستطيع جلب اشياء في عديلتيه، قد لا تجدها النساء في الحانوت، فجمهوره دائما من النساء، وبضاعته تخصهن وتخص اطفالهن اكثر من الرجال، وهو يبيع خلطة متنوعة مما يحتجنه لانفسهن وبيوتهن، يبيع العطور والمرايا والحناء والامشاط وانواع الكحل والمراود والمكاحل والسواك، كما يبيع اشكالا من الصابون والمراهم التي تستخدم في ترطيب البشرة، ومعالجة الشقوق في القدم او في الجلد، وانواعا من العود والمباخر والبخور والوشق والجاوي والحلتيت واللوبان والعلكة، واحيانا انواعا من الحلي الرخيصة الزجاجية والخزفية والخشبية، والملابس الداخلية والمراهم الخاصة بالاطفال الرضع ومراضعهم، وغالبا ما تجد النساء لديه شيئا مثيرا او جديدا لم يصل الى حانوت الوكالة، بل يمكن ان يجدن بدائل لبعض ما هو موجود في الحانوت اكثر جاذبية ورخصا، فهاهي زوجته كاتيا نفسها موجودة مع النساء تساوم على اشياء لتشتريها منه، ولاشك ان هناك زحاما ينتظره عند عودة العائلات من الشعاب، ولم يستعجل بانايوتي الذهاب لتحية شلومو، عاد الى مكتبه، لانه يعرف انه باق، فهو كلما وصل الوكالة اقام فيها ليلته، وجاء لقضاء جزء من الليل معه، وهذا ما حدث فعلا، فقبل ان يكتمل حضور شيوخ النجع في موعدهم الليلي، وصل شلومو ليكون مع بانايوتي في انتظارهم، ليزودهم بشيء من اخبار النجوع، وما يدور في البادية التي تحيط بهم من احداث وما يشغل اهلها من مشاكل، وهو يقيم بعائلته في مزده، لكن عمله هو هذه السلع التي يشحنها فوق بغلته ويجوب بها الصحراء، فيكمل بيعها خلال اسبوعين ليعود للراحة مع الاسرة بضعة ايام، ويشحن العديلتين ببضائع جديدة لجولته التاليه، ويستغرب الناس دائما لهذه المساحات التي يقطعها صحبة بغلته، فهو يصل احيانا الى المناطق الحدودية في غدامس، ويعود بدل الحمولة التي ذهب بها بحمولة من سلع تشتهر بها المنطقة مثل صناعاتها التقليدية من الاطباق الملونة والسجاد المصنوع من السعف وحقائب وعلب مصنوعة من نفس المادة، وخناجر لها مقابض خشبية عليها زخارف جميلة ذات الوان، ثم يذهب في مشوار اخر الى فزان فيجلب منها انواعا نادرة من التمور، ويتجنب دائما المناطق التي يحتدم فيها الصراع بين العشائر، والاخرى التي تتحكم في معابرها عصابات الصحراء، فلا يتجه ببغلته الا الى المناطق الامنة، التي صار له فيها اصدقاء يحبونه ويرحبون به، ويقدمون له الحماية اذا احتاج اليها، وكان اكثر ما استثارهم من الاخبار التي جاء بها،ان السلطات الفرنسية في فزان، اجلت الطوارق من جنوب الحمادة الحمراء، في سعيها للسيطرةعلى الجريمة والقضاء على مصادرها، وملاحقة طوارق الهجار والاستفراد بهم، قبل اختلاطهم مع اقوام من طوارق البادية، وتم ترحيل قاطني جنوب الحمادة والهروج السود الى منطقة نائية قريبة من الحدود مع تشاد، هي منطقة القطرون، وصادرت كل اسلحتهم ووضعتهم تحت الرقابة الدائمة، تحت ذريعة الاستيطان بوعد ان تفتح مدارس ومستوصفات لهم وتخلق فرص عمل لرجالهم، وحرمت عليهم الاقتراب من منطقة الوسط حيت المعابر التي تشق الحمادة الحمراء، ومن اراد السفر في تجارة او رعي او غيره، اتجه وجهة جنوبية فقط حيث النيجر وتشاد، تامينا للمعبر الصحراوي الرئيسي المسمى معبر الحجيج، الذي يسلكه اهل الحماية الفرنسية القادمين من الجزائر والمغرب والساقية الحمراء وشنقيط ووادي الذهب، وما كان يهم اهل الوكالة من مثل هذه الاحداث، التي نقلها لهم شلومو ويتداولها اهل النجوع في الصحراء، هو ان خبر الحملة التي جردها السلطان ثانان لغزو الوكالة خبر لا صحة له، حتى اذا تصور الناس افتراضا ان لها اصلا صحيحا، وان هناك نية مبيتة من ذلك السلطان للقيام بمثل هذه الملاحقة، وبمثل هذا العدد من الفرسان، وصل نباها لاهل حكومة القبلة، فان التدابير الفرنسية جعلت قيام تلك الحملة مستحيلا، لان هذا الاجراء بتوطين الطوارق بعيدا عن الحمادة الحمراء ومنع ارتيادها اجراء جديد لم يحدث الا منذ اسبوعين، وهو كلام يهم ان يعرفه اوسادن، لكي لا يواصل هذا الجهد الزائد عن الحاجة، لان ما يقوله شلومو كلا م موثوق به، فهو لم يحصل على معلوماته من مصدر واحد وانما ينقل ما يتداوله الناس في كل ما يمر به من نجوع الحمادة الحمراء، وهي نجوع لها قوافل وتواصل مع الجنوب، ويهمها ما ترتب عن هذا الاجراء من تأمين للطرق، واستئناف لتدفق القوافل التي تاترت بالاختراقات الامنية.
شلومو لا يشرب الخمر اثناء تجواله بين النجوع، لانه يحتاج لان يكون في كامل يقظته خوفا من التعرض للسطو، وخوفا من وقوعه ضحية لذئب او ضبع من ذئاب وضباع الصحراء، التي تباغت ضحاياها وتهاجمهم غدرا، اذا ما مرت به لحظة غاب فيها عن الوعي بسبب الخمر، الا انه هنا في حماية الوكالة وصاحبها، فلا وجود لمثل هذا الخطر ولا حاجة لمثل هذا الحذر، ولهذا ياخذ فرصته في الاستمتاع بجرعات من السائل السحري الذي ينسى الانسان مشاكله، معتمدا على بانايوتي في اعطائه زجاجة نصف ليتر من الاوزو، يمزجها بالماء، ويستعين على استساغة طعمها، بجبنة الحلوم اليونانية، يعبر بها الليلة التي يقيمها في الوكالة، في ركن خيمة الضيافة أي خيمة القهوة، والعديلتين المحملتين ببضائعه تحت رأسه، وبغلته مقيدة الى وتد امامه تأكل ما يجود به اهل الوكالة من بقايا الخبز.

في اليوم التالي عندما رأى بانايوتي سيارة جيب تقترب من مقر الوكالة، ملفوفة في غلالة حمراء من غبار الطريق، خلال الساعات الاولى من الصباح،استعاذ بالله من الشيطان، فقد ظن انها بشائر الشر التي توعده بها طائر الشر قد اهلت، باعتبارها سيارة تنتمي هي ايضا للادارة التي يعمل السردوك قائدا لامنها، الا انها لم تكن كذلك، فقد عرف بمجرد ان وقفت ونزل منها سائق مدني، يتقدم اليه بتحية الصباح بشوشا مبسوط الملامح، انها لا تحمل شرا، فقد جاء الرجل يحمل امرا من نائب الوالي بالاحتفال يوم الجمعة القادم بعيد الجلوس على العرش لملك بريطانيا صاحب الجلالة جورج السادس، وهو يوم لم يكن قد جرى العرف على الاحتفال به خارج الاطر الرسمية للدولة، ولكن الحكومة قررت هذه المرة جعل الاحتفال رسميا وشعبيا، لانه ياتي بعد ان ابل الملك من مرض خطير الم به، وجاء ايضا بعد ان خرجت بريطانيا من محنة الحرب منتصرة على اعدائها دول المحور، ولذلك فقد ارسل نائب الوالي مبلغا من المال لتغطية نفقات الاحتفال في الوكالة يتساوى مع المبلغ الذي ارسله لكل نجع من نجوع القبائل البدوية الكبيرة، وهو ثلاثة الاف فرنك، طالبا من الرجل تسليمه لبانايوتي واخذ توقيع يفيد باستلامه في السجل الذي يحمله معه، ثم انطلق السائق بسيارته قاصدا نقاطا اخرى، وراى بانايوتي ان يضع الامر بين يدي بقية الشيوخ وحال انعقاد مجلسهم نقل اليهم تعليمات نائب الوالي واتفق معهم على اسلوب الاحتفال الذي قرروا ان يكون مسائيا لكي يتمكن الناس من مباشرة عملهم في التقاط الحلفاء، ثم يؤدي الرجال صلاة الجمعة، ليباشروا بعذ ذلك التحضير للحفل، فالمبلغ يكفي لشراء خمس خراف، سيتدبر ابوفاس الراعي ايجادها لهم، شرط منحه ثمنها منذ الآن لانه قد يحتاج لشرائها من رعاة آخرين من خارج هذه المنطقة، مع شراء ما يكفي من الحانوت من ارز ومكرونة وخضار، وما يحتاجه الحفل من مشروبات، وستتعاون عائلات النجع كما جرت العادة على طهي الطعام، وستقوم جماعة الشوشان باحياء الحفل الذي سيقتصر على الغناء والعزف والعاب ورقصات يؤديها الشباب ويشارك فيها الاطفال، ولا مجال لرقص نسائي مثل رقصة النخيخ التي يقتصر تقديمها على حفلات الاعراس، ورغم ان جماعة الشوشان تشارك في احتفالات اهل النجع واصحاب الوكالة تطوعا، الا انها جديرة في مثل هذا الحفل الذي ترعاه وتنفق عليه الحكومة، كما راى بانايوتي وايده في ذلك شيوخ النجع، بان تنال مكافاة مالية على سبيل الهدية مقابل هذه المشاركة، ومبلغ اخر صغير لمن يستطيع ان يقوم بتأليف قصيدة شعبية بالمناسبة يكون حافزا له على ابداعها، وقد وقع الاختيار على العمة مريومة، لما لها من باع في هذا المجال، على ان يقوم بانايوتي بمهمة افهامها اسباب الحفل وابعاد المناسبة ومن هو الملك جورج السادس وماهو العرش، وما هو الاحتفال بالجلوس عليه، لتكون القصيدة عملا فنيا يليق بالمناسبة، يستطيع ان يقوم بانايوتي فيما بعد بتقديمها مكتوبة لنائب الوالي، لكي يستطيع بدوره رفعها لاعلى سلطة في البلاد، بل يمكن ترجمتها والوصول بها الى الملك جورج السادس نفسه ليعرف ان هناك في جنائن العرعار، اناسا قاموا بواجبهم كاملا في الاحتفال بعيد جلوسه على العرش، الذي يأتي متوافقا مع الاحتفال باعياد النصر على الطليان.
وجاء يوم الاحتفال، وكان من اسباب بهجة بانايوتي ان اوسادن كان قد عاد من جولته الاستطلاعية، فشارك بالغناء والرقص على المهري، كما استخدم الاومباشي جبران حصانا استحضره خصيصا من مزده، لكي يستعرض به بعض مهاراته في الفروسية، وكان بانايوتي قد اوصى اهل الشاحنة على جلب الة ماندولينا، كان يسلي بها نفسه في طرابلس، وتركها في بيته بباب البحر، فاحضروها له في جراب قديم، وقد تسلل الغبار الى مفاتيحها واوتارها ووجدها بعد تنظيفها ودوزنة اوتارها صالحة للعزف، فقرر ان تكون مساهمته في الحفل بدقائق من العزف عليها، بينما ملأت فرقة الشوشان بعزفها وغنائها للاغاني الشعبية كل ساعات اليوم بمشاركة فاعلة من عاشور ومزماره البلدي المقرونة، وكانت المفاجأة التي اذهلت اهل النجع هي تانيرت التي ارتدت ملابس نساء السلاطين، واحضرت الة امزاد، ذات الوتر الواحد، وقامت بالعزف عليها بمصاحبة الغناء الطارقي الذي تجيده ولفترة تزيد على نصف ساعة، انسحبت بعدها رغم اصوات الاعجاب التي تطالب استمرارها في العزف والغناء، وكان اكثر الحاضرين اعجابا بها، اعضاء الجوق الموسيقى الشعبي،مبدين اندهاشهم كيف لالة موسيقية بوتر واحد ان تنتج هذا التنوع اللحني الحافل بالزخارف والالوان، وجاء دور الاهزوجة التي اجادت العمة مريومة نظمها، واملتها على واحد من شباب النجع قام بالقائها، وقد زادت عن خمسين بيتا، تشيد بمآثر الملك، الذي تحتفل البشرية، في مشارق الارض ومغاربها، بعيد تنصيبه ملكا، وتشكره باسم كل امرأة ليبية، فقدت اخا او زوجا او ابنا علي ايدي المستعمرين الايطاليين، لانه انتقم لها وازال كابوسهم من ارضها.
وكانت مهمة بانايوتي في الايام التي تلت الحفل هي ان يبحث عن مرسول يحمل هذه الاهزوجة الى نائب الملك، ثم رأى عندما تأخر الوقت قليلا دون ان يمر احد يليق ان يرسلها معه، ان يذهب بنفسه ويحظى بشرف لقائه، وينقل له صورة عما تم في الوكالة من احتفال واحتفاء بالمناسبة، الا انه وقبل ان يحدد يوم السفر، وجد نائب الوالي يعفيه من مثل هذه المهمة، ويقرر على غير توقع، ان ياتي الى زيارة الوكالة. كان الوقت قبل منتصف النهار، وهو مازال في مكتبه وامامه اكثر من سجل من سجلات وكالته والحانوت التابع لها، لتوثيق ما تم دفعه من نقود في اليوم الفارط وما تم صرفه من بضائع، عندما تناهى اليه صوت سيارة قادمة الى الوكالة، فخرج تراوده المخاوف التي لا تغادرعقله بسبب تهديدات السردوك، ليجد ان القادم ليس سيارة واحدة وانما سيارتان، وكانت المفاجأة كبيرة لحظة ان راى نائب الوالي بحده وقده البريجادير هيوز نفسه، يرتجل من اول السيارتين، ثم يهبط بعده السردوك، ليشعر بان سببا جللا هو الذي جاء بهما معا، الا انه لم ينزعج، كما كان سيفعل لو ان السردوك جاء بمفرده، لانه مع حضور نائب الوالي فان شرور السردوك، ستبقى محبوسة في قمقمها، غير قادر على اطلاقها امام رئيسه، ولم يستطع بانايوتي تأدبا ان يساله عن سبب الزيارة، ولكنه رأى نائب الوالي يتكلم مزهوا عن عيد العرش، الذي احتفلت به البلاد، وشاركت فيه منطقة القبلة مشاركة فعالة، فانصت اليه وهو يقول انه بعث برسالة عن هذه الاحتفالات الى صحف لندن التي نشرت اخبارا عنها، وانه يسعده ان ينقل لبانايوتي ومن خلاله الى قاطني الوكالة، ان الملك جورج السادس، القى خطابا تم نقله عن طريق الهواء مباشرة، متجها به الى كافة رعاياه في الكرة الارضية، يشكرهم على احتفالهم بمناسبة ذكرى جلوسه على عرش اجداده، ويتمنى لهم دوام السعادة والهناء، وامر كل ممثليه في المحميات والمستعمرات نقل رسالة الشكر الملكية اليهم، وكان رد بانايوتي هو تلك القصيدة التي صاغتها قريحة العمة مريومة، مكتوبة في ورق مصقول بالخط الجميل الذي يجيد رسمه الفقي عمار.

يتبع غدا