سالني مذيع احدى المرئيات اثناء موقعة ميدان التحرير في القاهرة عما اراه فيما يحدث من تجاذب بين المعسكرين معسكر الثورة ومعسكر الموالاة فاجبته مؤكدا على ما قاله الزميل الصحفي والاعلامي المصري الشهير محمود سعد بانه كذب من قال بوجود معسكرين وانما هو معسكر واحد اسمه معسكر مصر التي خرجت الى الشارع تطالب بصوت واحد وقلب واحد وضمير واحد بالحرية وانتهاء حكم الجور والقمع والتسلط بكل ادواته واجهزته ومفرداته وقلت له ايضا تعليقا على مظاهرات التاييد بانها مظاهرات فاسدة باطلة عاطلة لانه لا وجود في العالم لمثل هذه المظاهرات خاصة لحاكم انهى مدته واستنفذ زمن صلاحيته حتى لو كان حكمه رشيدا صالحا فكلنا نعلم شعبية بيل كلينتون ولكن هل راينا مظاهرات تسير لتاييده عندما انتهت مدته تطالب ببقائه في البيت الابيض بل هل راينا مظاهرات تسير لتاييده عندما تعرض للمحاكمة واحتمال اسقاطه بحكم قضائي كما حدث لسلفه نيكسون ونيكسون نفسه هل سمعنا بمظاهرة واحدة تذهب لتاييد بقائه في منصبه او تمديد مدته ضد مظاهرات كثيرة خرجت ضده احتجاجا على حرب فيتنام تنعته بكل النعوث ولكن لا مظاهرة واحدة تخرج ضده لان المظاهرات تم استحداثها لتكون اداة للاحتجاج وليس لتاييد حاكم هو موجود في موقعه باصوات الناخبين لفترة محددة يعودون في نهايتها للاقتراع اما لابقائه في منصبه وتمديد حكمه لفترة واحدة محددة باربع سنوات يعود بعدها الى بيته او يقررون عبر اصواتهم انتهاء حكمه منذ الفترة الاولى دون تجديد ولا تمديد كما راينا المظاهرات الحاشدة التي خرجت احتجاجا على جورج بوش الابن في مدن امريكا ضد اعلانه الحرب على العراق تنعته بالقاتل والمجرم دون ان نرى مظاهرة واحدة لتاييده تقول انه ليس مجرما وليس قاتلا، لان الناس الذين انتخبوه ووضعوه في البيت الابيض لم ينتخبوا قاتلا ولا مجرما، فوجوده في هذا البيت يكفي للتعبير عن راي المواطن الذي لم يخرج للتعبير عن السخط والاحتجاج وهكذا الحال مع مظاهرات اخرى في بريطانيا خرجت ضد شريكه في تلك الحرب توني بلير دون ان نرى مظاهرة يقوم بها المؤيدون البريطانيون لتلك الحرب او لتلك السياسات لان الحاكم موجود ليؤدى المهمة التي كلفته بها الاغلبية عندما يكون منتخبا انتخابا رئاسيا او التي كلفه بها البرلمان عندما يكون الحكم برلمانيا كما في بريطانيا وهو البرلمان الذي اسقط حزب بلير بعد ان سقط بلير نفسه عن طريق الحزب، هكذا هو نظام المظاهرات فهي تخرج استنكارا واحتجاجا ولا تخرج تاييدا ولا مساندة ولامناصرة للحاكم لانه عار للحاكم الموجود فوق سدة الحكم ان يستعين بمظاهرة تؤيده اذا كان لوجوده اية شرعية واذا سقطت عنه الشرعية كما حدث في نظامي بن علي في تونس ومبارك في مصر عن طريق المظاهرات الحاشدة فلا سبيل لاستعادتها بمظاهرات مفتعلة او صحيحة، وقد كان نظام مبارك يقول ان هناك اغلبية صامتة تعادل اضعاف المرات هؤلاء الذين خرجوا ضده في الشارع وينسى ان مصر التي اخرجت الى الشارع وفي مختلف المدن اكثر من عشرة ملايين متظاهر لم تنتخبه في كل مراحل انتخابه بما فيها من تزوير وكذب باكثر من اربعة ملايين ناخب، ومعنى ذلك ان الخارجين على حكمه بلغ مرتين ونصف عدد الذين انتخبوه، افلا تكون قد سقطت كل الذرائع لبقائه في الحكم، هذه نقطة اولى ببطلان مظاهرات التأييد للحاكم، لان الحاكم الشرعي لا يحتاج اليها ولا يعتمدها حجة لبقائه في الحكم ولم يحدث في عالم الحاكمين ان اعتمد حاكم على مظاهرات التاييد كوسيلة لاكتساب شرعية لا يملكها، لانه لا يحتاجها اذا كان وجوده في موقع الحكم شرعيا، ولا حق له في هذا الموقع اذا لم يكن يملك هذه الشرعية، اما مظاهرات الاحتجاج فهي وحدها التي تخرج لشوارع المدن للتعبير عن راي ضد حاكم موجود في الحكم قد لا تستطيع ازالته لانه يعتمد على شرعية الاقتراع او شرعية البرلمان التي لا يستطيع ان يبطلها الشارع، اما في عالم الحكام الذين لا يستمدون شرعيتهم من اقتراع او من برلمان فان الشارع يخرج ليس فقط في مسيرات وانما ثورات يصنع بها عهدا جديدا ويبني بها اركان حكم مختلف ويفرض بها ارادته على الحاكمين ويبطل بها اقتراعا زائفا كما حدث في حكم مبارك وبن علي عندما خرجت الجماهير تطالب باسقاط الرئيس باضعاف الاصوات التي يقول انها وضعته في كرسي الرئاسة.

كان هذا توضيحا لابد منه لنقطة اختلفت فيها الاراء النقطة الثانية التي اريد التنبيه اليها وقد انتصر الثائرون في كل من تونس ومصر هي ضرورة الانتباه الى ان سببا اساسيا من الاسباب المسئولة عن تفجير ثورة الشباب في تونس وفي مصر، يتصل بمسالة المهانة التي يلقاها المواطن العادي علي ايدي افراد البوليس، وطبعا ياتي على راس هذا النوع من المهانة التعذيب الذي يمارس بشكل واسع في سجون اقطار الوطن العربي، وتعتبره السلطات الحكومية في كل هذه الاقطار على مختلف الوانها وهوياتها السياسة مسالة مسلما بها، واحتساب هذا التعذيب وهذه الاهانة للمواطن من قبل الشرطة جزءا من حفظ الامن والنظام، ولم نسمع عن دولة عربية ثورية او تقليدية وضعت ضمن اولوياتها محاربة التعذيب، او وضع روادع وعقوبات لافراد وضباط الشرطة الذين يستخدمون التعذيب وسيلة لنزع الاعترافات وتاديب المواطنين العصاة والمتمردين والمعارضين للدولة ممن يقعون تحت ايديهم او خلف جدران زنازينهم. ويكفي ان نعلم ان نظاما ثوريا استقطب حب الجماهير على امتداد الوطن العربي هو نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي اشتهر بشعاره المعبر عن رد الكرامة للمواطن وهو ارفع راسك يا اخي فقد مضى عهد الاستعمار، كان نظاما يتحمل مسئولية ابشع فصول التعذيب التي حدثث في سجونه للمعارضين، وقرانا شهادات كثيرة من زملاء له في سجن الواحات، عن كيف قتل المفكر شهدي عطية تحت التعذيب كما قرانا لكتاب وادباء من امثال الراحل محمود العالم، صورة مؤلمة لما كان يسمى استقبال ابو زعبل لهؤلاء المفكرين وتعذيبهم لمجرد التسلية، وبعد ان انتهت التحقيقات وتم ايداعهم المعتقلات، ليكون هذا التعذيب مجرد عملية تاذيبية لا علاقة لها بالتحقيق ويطال نساء مثل السيدة زينب الغزالي كما كان يطال الرجال . وطبعا هناك من مثل هذه الشهادات المئات بل الالاف على مستوى كل الاقطار العربية وطبعا اصبح التعذيب موضوعا لروايات من امثال شرق المتوسط للراحل عبد الرحمن منيف او حكاية توتو للروائي الراحل ايضا فتحي غانم وقبلهما رواية يوسف ادريس الشهيرة العسكري الاسود التي كتبها عن التعذيب في السجون الملكية، ثم رواية صديقنا الروائي السوري نبيل سليمان quot;سمر اللياليquot; التي اعقب نشرها زيارة لبيته من زوار الفجر، اذاقوه من التعذيب ما اشرف به على الموت، وكانت شهادة شاعرنا الكبير الذي رحل منذ عام مضى محمد عفيفي مطر، عما حدث له من تعذيب وهو يسجن في عهد قريب شهادة على ان هذا التعذيب، الذي لا ينجو منه حتى مشاهير الادباء ما زال جزءا عضويا داخل انظمة الحكم في المنطقة العربية، واخيرا جاءت من تونس الشرارة التي اشعلت الحريق عندما تعرض شاب تونسي متعلم لجأ بحثا عن الرزق وهربا من البطالة الى ان يبيع الخضار ويتجول به في عربة يدوية وجاءته شرطية يصحبها معاون من الامن مثلها، تصادر عربته، وعندما ابدى احتجاجه صفعته على وجهه، وامطره المعاون بوابل من الشتائم، فلم يحتمل ما حدث له ووقف امام المبني البلدي لمدينة سيدي بوزيد واشعل في جسمه النار، اما في مصر فكان اول تجمع شبابي تلقف الاشارة وصنع الشرارة هو التجمع الذي تشكل بعد مقتل شاب اسمه خالد سعيد تعذيبا على ايدي افراد من الشرطة في الاسكندرية، وانتشرت صور ما لحق بوجهه الوسيم من تشوهات فوق صفحات الانترنيت تثير غضب وسخط الناس في كل اركان المعمورة وتبدا المسيرة الثورية التي التحق بها ملايين افراد الشعب.
الاولوية اذن على اجندة شعوب المنطقة في المرحلة القادمة، لا لاهانة المواطن، لا لتعذيبه حتى لو كان مجرما قاتلا، وعلى الشرطة ان تقدمه للقضاء، وان تجتهد في جمع الادلة والبراهين على ادانته، باسليب عصرية تحفظ له كرامته، وتعامله باعتباره متهما حتى تتبث ادانته، وليحكم عليه القضاء عندما تتبث هذه الادانة بالاعدام دون تعذيب ولا اهانة. ولنامل حقا في ان نشهد في المرحلة القادمة ادبا روائيا لا يكون التعذيب في السجون موضوعا من موضاعاته.