يشير كثير من المراقبين السياسيه والمعلقين في الصحافة والاعلام الى المدة التي قضاها الرئيس الليبي في الحكم وهي قرابة اثنين واربعين عاما، باعتبارها مدة قياسية في حكم اي نظام جمهوري، ويعتبرون البقاء في الحكم طوال هذه المدة يمثل استغلالا وظلما، ومصادرة لقوى التجديد والتحديث واجتراء على حق الشعوب في التغيير والتطلع الى اساليب اكثر عصرية في الحكم والادارة، خاصة ان كثيرا من الانظمة الجمهورية نصت في دساتيرها على تحديد مدة الرئيس بفترة تتراوح بين اربعة وخمسة اعوام لا تجدد الا مرة واحدة، ومقارنة بمنصب الرئيس في دولة مثل الولايات المتحدة الامريكية فان الرئيس الليبي عاصر انتقال السلطة وتداولها في هذه البلاد بين ثمانية رؤساء، فقد جاء للحكم مع بداية عهد الرئيس نيكسون الذي خلفه فورد ثم كارتر ثم ريجان ثم بوش الاب ثم كلينتون ثم بوش الابن ثم اوباما، وما زال رغم ذلك يريد ان يستمر في الحكم حتى لو كان على جثث القتلى من ابناء شعبه الذين يثورون ضده ويرفضون استمراره في الحكم، مع قوة المفارقة التي تجعل رئيسا مثل بيل كلينتون، بسجله المتفوق في الفترة الرئاسية التي قضايا في البيت الابيض، حيث سجل الاقتصاد الامريكي مرحلة ازدهار ونجاح، وتم في عهده وبسبب حبه للعلم والعلماء انجاز فتوحات علمية تولى بنفسه الاعلان عنها للبشرية مثل خريطة الجينيوم، التي كانت ثورة في عالم الجينات الوراثية، واعلن عن خطة ادارته لتوفير جهاز كومبيوتر شخصي لكل طفل امريكي،وقدم للعالم رؤى انسانية وتقدمية ساهمت في حل مشاكل كثيرة عالقة بين شعوب الارض، كان من بينها مشكلة الشرق الاوسط التي تصادف ان جاء دورها في المراحل الاخيرة لحكمه فانتهت فترته الرئيسية دون ان تصل الى الخواتيم الناجحة التي ارادها لها، اقول ان المفارقة الفاجعة هي ان يبقى رجل مثل الرئيس الليبي بافكاره التي تنتمي للعصور الوسطي، ورؤاه القاصرة الغريبة عن روح العصر مثل الفكرة التي روج لها في افريقيا، ردا على افكار الحداثة ودساتير العصر التي تطالب بتحديد
المدد الرئاسية، مطالبا هذه الشعوب بالابقاء على انظمة الحكم التي تتيح للرئيس ان يستمر في منصبه الى الابد،يبقى اثنين واربعين عاما في منصب الرئيس بينما لا يبقى بيل كلينتون بافكاره العصريه ورؤاه المتطورة واساليبه الناجحة في الادارة غير ثمان سنوات، لان سنن التجديد والتحديث والتطور، التي ارتآها المشرع الامريكي، وضعت هذا النص في الدستور، الذي يحتم على الحاكم مهما كانت عبقريته، ومهما كان حجم انجازه عظيما، ان يجدد ترشيح نفسه مرة واحدة، وعند نهاية الفترة الثانية يغادر قصر الحكم للساكن الجديد الذي انتخبه الشعب رئيسا. المفارقة الثانية ان هذا الحاكم الذي وضع الاغلال والسلاسل في يد ليبيا وابقاها تحت امرته خلال كل هذه المدة، لم يكن يحكم دغلا كما هو الحال مع ازلامه من ملوك وسلاطين افريقيا ممن نصب نفسه رئيسا عليهم،او يحكم قبيلة في الصحراء، او مجموعة اكواخ في الغابة، بحيث لم تكن لتختلف الحال حتى لو بقى حاكما لذاك الدغل اوتلك المجموعة من الاكواخ او الخيام طوال عمره، بل العكس هو الصحيح، اذ كان يحكم دولة تنتمي الى اكثر مناطق العالم تحضرا وتقدما، تحتل اكبرجزء من شاطيء البحر الابيض المتوسط الذي استوعب كل مراحل التدرج الحضاري منذ فجر التاريخ، وتقع في المكان الذي يمثل تقاطع طرق الحضارات، بين مغرب الوطن العربي ومشرقه، بين العمق الافريقي والساحل الشمالي للقارة السمراء وبوابة هذه القارة الى اوروبا، فياتي ليعطل الحياة لاكثر من اربعة عقود بافكار لا علاقة لها بما يمور في العالم من افكار حديثة، خاصة ما يتصل منها بالحرية والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الانسان ومجتمع المعرفة، ثم ياتي الشعب بعد هذه العقود الكثيرة الطويلة الثقيلة، يطالب بحريته وفك الاغلال والسلاسل التي ربطه بها، فيتفجر هذا الحاكم جنونا وغضبا واجراما ويخرج ما تراكم في ثكناته من ترسانة عسكرية، ويباشر اطلاق النار عليه ورميه براجمات الصواريخ وقذائف المدافع والدبابات والسلاح الجوي واستخدام القناصة المجلوبين من عصابات المافيا الاوروبية والجنود المأجورين من تشاد ومالي والنيجر، والخبراء القادمين من جيش الدفاع الاسرائيلي،
قائلا ما اجاد تلخيصه صديقنا ممثل ليبيا في الامم المتحدة عبد الرحمن شلقم وهو quot;احكمكم او اقتلكمquot;، ويدير اذنا من طين واذنا من عجين لكل الاصوات التي اطلقتها هيئات دولية واقليمية والمناشدات التي جاءته من اغلب رؤساء العالم ان يرحل عن الحكم، حقنا لدماء اهله وابناء شعبه، ولكي يتيح لهم فرصة اختيار من يحكمهم، مما جعل حرب الرئيس الليبي على شعبه تتصدر نشرات الاخبار في كل العالم، ويتبارى المحللون والمراقبون في توصيف هذا الحاكم الذي لا سوابق له في اعلان الحرب على شعبه ووطنه، والذي حكم مدة لا تعادلها مدة اي رئيس في اي نظام شعبي او جمهوري في العصر الحديث، ويشيرون غالبا الى الطريقة التي ادار بها الرئيس الليبي البلاد، فهي طريقة فردية استبدادية، تجعل البلاد كانها مسرح الممثل الفرد، الواحد الاحد، ينفرد باتخاذ القرارات ورسم السياسات الى حد ان جعله مبدأ من مباديء الحكم وقاعدة من قواعده معتمدة في مؤتمر الشعب العام بان اي كلمة يقولها لها قوة القانون، وقد يقوم هؤلاء المراقبون والمعلقون بشرح الاوضاع المأساوية التي ظلت ليبيا تعيشها تحت استبداد وطغيان هذا الحاكم، ولكنهم دائما ينسون اضافة لا بد منها، ولا يستقيم التوصيف الدقيق لهذا الحكم وهذا الحاكم بدونها، وهي انه وخلال اثنين واربعين عاما، لم يحدث ولو مرة واحدة، ان رجع هذا الحاكم الى الشعب، كما هو الحال مع كل الحكام الذين جاءت بهم الانقلابات، ثم سعوا لاكتساب شرعية من خلال الانتخابات او اجراء الاستفتاءات، وظل منذ ان جاءت به الدبابة لالقاء بيانه في الاذاعة وتربع فيما بعد في قصر الحكم، وهو جالس على صدور الناس، دون ان يسألهم ولو بصورة رمزية وهمية شكلية كاذبة، عن طريق انتخابات مزورة، او استفتاء لا مصداقية له، لكي يستطيع بعده الادعاء، انه يحكم باختيار او ارادة او سلطة الشعب، لان مثل هذا الرجوع الى الشعب حتى لو كان كاذبا زائفا، انما هو تنازل منه، واذعان لارادة يراها اقل منه شانا، ولذلك بقي خلال هذه العقودة الاربعة ونيف، يحكم بما يسميه الشرعية الثورية، وهو يعرف انها شرعية باطلة عاطلة كاذبة، بل هي شرعية لا وجود لها، ولم يحدث لاي دستور في العالم حتى لو كان دستور قبائل نيام نيام، ان احل شيئا او شرع لشيء اسمه الشرعية الثورية، واذا حدث تجاوزا واستثناء، ان وجدت هذه الشرعية فهي عملية مؤقتة تستغرق بضعة اشهر، ومشروطة بان يكون الوضع انتقاليا، ولا تزيد عن عام او عامين باقصى تقدير، واذا اردنا ان نضرب مثلا بما يحدث في تاريخنا المعاصر نضرب مثلا بالسودان، اثر سقوط جعفر النميري بسبب الثورة التي تفجرت في غيابه، ووجد قائد الجيش نفسه مرغما على استلام السلطة وادارة البلاد نتيجة الفراغ الذي حدث في السلطة، ولم يكن ثمة نص دستوري يعتمد عليه، وكان لابد ان يواصل حكم البلاد دون وجود حياة دستورية، الى حين توفر الوضع الدستوري بعد اجراء الانتخابات وبناء اسس الدولة التي تملا الفراغ، وقد استغرق هذا الانتقال مدة عام واحد، واسموا حكم الجيش خلال هذا العام، شرعية ثورية، ولعل المجلس الاعلى للقوات المسلحة في مصر وحكمه خلال المدة التي حددها بستة اشهر يمكن تسميتها شرعية ثورية، ولكن ان يستمر حاكم في الحكم، كما فعل الرئيس الليبي، مدة تزيد عن اربعة عقود، بما يسميه شرعية ثورية، فان هذا ليس مجرد اكذوبة، وليس مجرد تزييف للشرع والدستور، وانما هو جريمة في حق الشعوب لا ادري كيف لم تجرمها مواثيق حقوق الانسان وقوانين العدالة الدولية. لقد دفع ملايين البشر في ليبيا ثمنا فادحا لهذه الجريمة، ولم يعد ثمة وسيلة لتصحيح الماضي، او تعويض هؤلاء الملايين عما خسروه من اعمارهم، ما يمكن عمله الان هو الا تتكرر هذه الجريمة في المستقبل، وان يضع المجتمع الدولي الضمانات التي لا تسمح بظهور حاكم جديد يحكم شعبه لعدد من الاعوام والعقود معتمدا على شرعية ثورية بلا شرعية ولا مصداقية، ولا سند لها في عرف ولا دين ولا دستور.