جاسم بونوفل
يخطئ من يصدق ما يتردد في الخطاب السياسي والإعلامي الإيراني بشأن العداء للولايات المتحدة؛ ذلك أن الوقائع تكذب كل الشعارات التي تدندن بها جوقة الإعلام الإيراني والتي يتردد صداها في بغداد وبيروت والكويت والبحرين. فوصف الولايات المتحدة بـ ''الشيطان الأكبر'' و''زعيمة الاستكبار العالمي'' وترديد الشارع الإيراني بعد كل خطاب ''الموت لأمريكا والموت لإسرائيل'' هي مجرد شعارات اخترعها النظام الإيراني بهدف إشغال أذهان الإيرانيين بعدو وهمي وتحويل أنظارهم له لإبعادهم عما يجري في الساحة الإيرانية، كما إنها لعبة سياسية من ألاعيب القيادات الإيرانية التي تناوبت الحكم أرادت من خلالها الضرب على وتر كراهية شرائح ليست قليلة من الشعب الإيراني للغرب نتيجة ارتباطه بنظام الشاه، وتأسيساً على ذلك وظفت هذه القيادات عاطفة الكراهية للدول الغربية في استثارة الشعوب الإيرانية واستنهاض هممها لمواجهة العدو الافتراضي. من هنا اتجه الملالي في خطابهم السياسي والإعلامي إلى إلباس نظامهم لبوس ''الثورية'' الذي يرفض في ظاهره الهيمنة الغربية عموماً والأمريكية خاصة من خلال وصف الأخيرة على أنها العدو اللدود للثورة الإسلامية!! إن المتابع لملف العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ الإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 سيكتشف أن تلك الشعارات التي يطلقها ملالي إيران بمناسبة ودون مناسبة ما هي إلا فقاعات إعلامية وسعي من النظام الإيراني لخداع الجماهير في العالمين العربي والإسلامي، والحقيقة هي أن الأمريكيين والإيرانيين سمن على عسل وأن التفاهم بينهما حول عدد من المسائل وصل إلى أعلى درجاته، وخير دليل على ذلك موقف إيران من التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق، الأمريكيون لا ينسون فضل إيران، فهي التي عبدت لهم الطريق للدخول إلى أفغانستان والعراق وهي التي ساهمت في الإسراع بانهيار نظام طالبان، وهي التي ساعدت الأمريكيين عبر أذنابها في العراق بالتعجيل بسقوط نظام صدام حسين. لم يكتف الإيرانيون بلعب هذه الأدوار في مرحلة ما قبل الإطاحة بنظام صدام حسين، إنما استمروا في لعبها في مرحلة ما بعد صدام حيث إن ترتيب بيت الحكم في العراق كان ولايزال يمر عبر بوابة طهران، ومن هنا يمكن القول إن العداء الذي يكنه نظام ولاية الفقيه للولايات المتحدة ليس حقيقياً إذ إنه يندرج في إطار ''التقية السياسية'' التي تمارسها إيران في تعاطيها مع القضايا الإقليمية والدولية، ونتيجة لذلك فهي لا تضمر العداء للأمريكيين وليس بينها وبين الولايات المتحدة ما يجعل الأولى تخاصم الثانية؛ لأنها تعرف أن الأخيرة لعبت دوراً كبيراً في نجاح ''ثورة الخميني'' ولولا الدعم الأمريكي لما نجح الخميني في الإطاحة بنظام الشاه، ومن يشكك في هذا عليه أن يرجع إلى لقراءة بعض الكتب التي صدرت في أوروبا والتي أماطت اللثام عن أسرار العلاقات الإيرانية - الأمريكية قبل الثورة، وقدمت تلك الكتب أدلة تثبت دور الأمريكيين في دعم الثورة الإيرانية منذ بدايتها، ومنها كتاب ''رهينة خميني'' الذي ألفه روبرت كارمن درايفوس، حيث أشار درايفوس إلى عدد من الأدلة التي تثبت الدور الحيوي الذي قامت به الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جيمي كارتر في مساندة ''الثورة الخمينية'' منذ خطواتها الأولى وحتى نهايتها التي أفضت إلى مغادرة الشاه لإيران. في هذا الاتجاه يذهب محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية في عهد الرئيس خاتمي في محاضرة ألقاها في مؤتمر ''الخليج وتحديات المستقبل'' الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في 15 يناير 2004 إلى القول: إن بلاده قدمت كثيراً من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق، وأضاف أنه ''لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابل وبغداد بهذه السهولة''. هذه الأدلة لم تعد من الأسرار؛ فالإيرانيون لا ينكرونها، كذلك الحال بالنسبة للأمريكيين فهم يقرونها ويعتبرون أنها تأتي في إطار المصالح المشتركة لكل منهما، ولم يختلف الموقف الأمريكي من أزمة البحرين الأخيرة عن هذا المبدأ، والدليل هو تذبذب الموقف الأمريكي من الأحداث في بداية الأزمة، إذ اعتقد الأمريكيون أن الساحة البحرينية يمكن أن تتحول إلى عراق جديد تتقاطع فيه مصالحهم مع مصالح خصمهم الافتراضي، وبناء على ذلك ظنوا أن الوقت مناسب لتوظيف أحداث البحرين الساخنة كورقة يلعبون بها مع الإيرانيين، فإيران لديها مشاريعها الخاصة التي تصطدم مع مشاريع الولايات المتحدة في المنطقة ولعل أبرزها برنامجها النووي الذي تصر على الاستمرار فيه، ولا يوجد في الأفق ما يوحي أنها تتجه إلى التخلي عنه رغم معارضة الولايات المتحدة، كما لديها أيضاً مشروعها التوسعي في دول المنطقة، في المقابل نجد أن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة لا تخفى على إيران، وأن أمريكا قد جربت التعاون مع الأخيرة في العراق ونجحت فيه فلماذا لا تكرر التجربة معها في ساحة جديدة (البحرين)؟ بناء على ما سبق، يمكن تفسير الموقف الأمريكي من أحداث البحرين، إذ أثبتت الأحداث أن سياسية الولايات المتحدة في تحديد مسار علاقاتها مع أصدقائها من الدول تنطلق من مبدأ ''لا توجد صداقة دائمة أو عداوة دائمة وإنما هناك مصالح دائمة''، ونتيجة لهذه السياسة فقد وجدت الولايات المتحدة في هذه اللحظة أن من مصلحتها الوقوف مع أذناب إيران في البحرين لأن مثل هذا الموقف سيترتب عليه تمرير إيران لبعض طلباتها القديمة الجديدة، لذلك كان موقفها مائعاً من الأحداث وكادت أن تضحي بأصدقائها التقليديين، لكن الموقف الصلب والحازم للملكة العربية السعودية ومن خلفها دول مجلس التعاون والذي تمثل في الاستجابة السريعة لنداء القيادة الحكيمة في البحرين هو الذي جعلها تراجع حساباتها في اللحظة الأخيرة وتغير من موقفها ومن ثم بدأنا نسمع لغة جديدة في الخطاب الأمريكي يميل في معظمه إلى تأييد البحرين في كل الإجراءات التي اتخذتها للحفاظ على أمنها واستقرارها. ورغم هذا الموقف جاء متأخراً إلا أنه بالتأكيد أفضل بكثير من أن تقف الولايات المتحدة عند موقفها السابق.
التعليقات