عبد الحميد الأنصاري


كنا أربعة محاورين في تسجيل البرنامج الحواري الشيق quot;مثير للجدلquot;، وهو برنامج سياسي اجتماعي تقدمه الإعلامية فضيلة السويسي في فضائية quot;أبوظبيquot;، وكان موضوع الحوار quot;ثقافة الحوارquot;، ويتناول محاور أساسية منها: على ماذا نتحاور؟ وما هي مقومات الحوار الناجح؟ هل نؤمن فعلاً بقاعدة الرأي والرأي الآخر؟ وهل ستقود ثورات اليوم إلى شيوع ثقافة الحوار؟ وهل البرامج الحوارية في الفضائيات العربية ترسخ قيم وثقافة الحوار لدى الجمهور؟ ما دور المنابر التعليمية والتربوية والدينية في الإيمان بثقافة الحوار؟ وتم اختيار ضيوف البرنامج ليمثل تنوعاً وتكاملاً يثري محاور quot;ثقافة الحوارquot; ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً وإعلامياً. وكان معنا الإعلامي المصري تامر أمين، والشيخ عماد بني يونس النائب في البرلمان الأردني، والدكتورة كاترين ميخائيل الناشطة في مجال حقوق الإنسان، إضافة إلى كاتب المقال.

وبطبيعة الحال ليس هدف المقال تلخيص ما دار من مناقشات في الحلقة ولكن تسليط الأضواء على جوانب معينة أراها جديرة بالمناقشة العامة، ففيما يتعلق بالسؤال على ماذا نتحاور؟ أتصور أن الحوار يشمل حتى القضايا محل الاتفاق والتي نقول عنها quot;الثوابتquot; الدينية والوطنية، لأن الحوار العام هو الذي يوصلنا إلى اختيار الوسائل والطرق المثلى لتفعيل تلك الثوابت على أرضية الواقع المجتمعي، أما دور الحوار في القضايا السياسية والاجتماعية والدينية محل الاختلاف، فيوصلنا إلى تحجيم مساحة الاختلاف وفق ما نسميه quot;فن إدارة الاختلافquot;. وطبقاً للقاعدة الذهبية quot;نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليهquot;، وإن كانت هذه القاعدة الحوارية ومثلها قاعدة quot;الاختلاف لا يفسد للود قضيةquot;، وقاعدة quot;اختلاف أمتي رحمةquot;، وقاعدة quot;المجتهد مثاب وإن أخطأ في الرأيquot;، لا زالت غير مفعلة في الواقع المجتمعي، لأننا حتى الآن لم نتعلم أو لم نتدرب أو لم نترب على أن نختلف بأسلوب حضاري لا ينتج خصاماً ومقاطعة مثل بقية الشعوب التي وظفت اختلافاتها بما يسهم في تقدمها.





وفيما يتعلق بمقومات الحوار الناجح فأولها: الإيمان بثقافة الحوار، وهي تعني أكثر من سماع وجهات النظر الأخرى، ثقافة الحوار تعني الإيمان بشرعية الآخر وقبوله وحقه في التعبير والمشاركة السياسية، حقاً أصيلاً، لا تفضّلاً أو إحساناً أو منّة، لا يحق لأحد مصادرته أو تهميشه أو تجريحه أو تخوينه أو تكفيره، انطلاقاً من أساس ديني ومعرفي من أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة إلا الله وحده عز وجل، وأن الحقائق المعرفية بيد البشر quot;حقائق نسبيةquot; مصداقاً لقوله تعالى quot;وما أوتيتم من العلم إلا قليلاًquot;، ومن عقيدة راسخة بأن quot;الاختلافquot; إرادة إلهية عليا في الكون والطبيعة والحياة والإنسان، يؤكدها قوله تعالى: quot;ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحِم ربُّك، ولذلك خلقهمquot;. أي أن الله عز وجل خلق البشر من أجل أن يختلفوا ويتنافسوا لينتجوا أفضل ما عندهم ليعمروا الأرض ويثروا الحياة ويرتقوا بأنفسهم وبمجتمعاتهم عبر عمليات التفاعل أو الحوار الحضاري الخلاق quot;التعارفquot;. وهذا يتطلب على المستوى الداخلي للمجتمعات، إشراك كافة عناصر ومكونات المجتمع السياسية مع كفالة عدالة الفرص للكافة في التعليم والعمل والمناصب والإعلام وعدم إقصاء أي طرف تحت أي مبرر، بمعنى آخر، أن quot;ثقافة الحوارquot; يقصد بها: قبول الآخر والتعددية وقيم التسامح ونقد الذات والاستعداد للاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، وهي أمور نرددها كثيراً ونتغنى بها طويلاً، لكننا لا نترجمها عملياً عبر المنظومات المجتمعية الحاكمة لثقافة المجتمع وأقصد بها: المنظومة التربوية على نطاق الأسرة، والمنظومة التعليمية التي لا زالت محكومة بالرأي الأحادي وآفة التلقين، والمنظومة الدينية العاجزة عن تقديم صورة حضارية للإسلام عبر الحوار مع الآخر الخارجي، والمنظومة الإعلامية التي تفتقد الموضوعية وتخلط الرأي بالحقيقة بهدف الإثارة الإعلامية والشعبية، والمنظومة التشريعية التي تمارس تمييزاً ضد الأنثى والأقليات.

على أن أهم تساؤل طرح في البرنامج هو: إلى أي مدى تساهم الثورات الشعبية الجديدة في ترسيخ وشيوع ثقافة الحوار؟ رغم فرحنا وتأييدنا للثورات الجديدة في مسعاها إلى محاربة الفساد والاستبداد وإسقاط رموزهما عبر محاكمات عادلة، إلا أننا نفتقد في هذه الثورات الإيمان بشرعية الاختلاف وقبول وجهات النظر المخالفة لتوجهات الثوار، فكل من قال كلمة طيبة أو منصفة للنظام السابق أصبح متهماً في وطنيته وعدواً للثورة ووضع في القوائم quot;السوداءquot;، وحتى في ميدان التحرير في مصر كل من حاول أن يقول كلاماً يختلف عن توجهات المتظاهرين هوجم وقوطع وضُرب.

وفي هذه الأيام وفي الحملات الدعائية لبعض المرشحين للرئاسة المصرية، تثار في وجوههم حملات تحريضية بأنهم تعاونوا مع العهد البائد، وأصبح نقد الثورات الجديدة أو بيان سلبياتها محرّماً حتى ولو كان الهدف ترشيدها وتحذيرها من المزالق أو الخوف عليها من الانتهازيين، فتحول كثيرون إلى تملُّقها كسباً للشعبية، وهذا لا يساعد على إرساء حكم ديمقراطي حقيقي، بل يكرر أخطاء الثورات السابقة ويديم محنة الرأي الآخر. لا يمكن باسم الشرعية الثورية هدم إيجابيات السابق وتشويه الشخصيات المتعاونة مع النظام السابق (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). على الثوريين الارتقاء والتخلص من عقلية الثأر والانتقام وإلا صنعوا quot;فرعون جديداًquot;.