عبدالوهاب بدر خان
بعد قمة الدول الغنية الثماني في دوفيل (فرنسا) يمكن القول إن الانتفاضات الشعبية العربية فرضت نفسها على جدول الأعمال الدولي، ويفترض ألا تفارقه إلا مع اكتمال التغيير حيثما يتوجب هذا التغيير، ولا شك أن الدور الأكبر والأهم قامت به الشعوب نفسها، لكن المواكبة الدولية لابد أن تعزى إلى باراك أوباما الذي وإن كان لا يزال يخيّب آمال العرب فيما يتعلق برضوخه لابتزاز بنيامين نتنياهو، صاغ موقفاً أمريكياً معقولاً من الاتجاه العربي إلى تغيير الأنظمة الاستبدادية.
ومن دون استبعاد كلي لـquot;نظرية المؤامرةquot; لكي ينبغي القول إن العالم العربي تعرض لأنواع عدة من المؤامرات في تاريخه الحديث، إلا أنها المرة الأولى التي أمكن فيها للمتآمرين أن يجندوا الشعوب ضد الأنظمة والحكومات بل أن يضمنوا مثلا أن يواظب أي شعب على الخروج للتظاهر حتى بعد سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى عدا الاعتقال والتعذيب، ولابد أن تكون المرة الأولى التي تنبري فيها الشعوب للتحرك وتنقاد وراء quot;جماعات مخربةquot;، رغم أن السلطات نبهتها إلى مثل هذا الخطأ الفادح.
المهم أن quot;المتآمرينquot; اجتمعوا في فرنسا وقرروا أنهم بعد الترحيب بـquot;الربيع العربيquot; يعتزمون إقامة شراكة شاملة وطويلة الأمد مع الدول المتحولة من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وإذ تعهدوا بمساعدات يمكن أن تبلغ عشرين بليون دولار لمصر وتونس، فلا أحد يعتقد أن هؤلاء المانحين جمعية خيرية وإنما هم مجموعة الدول النافذة دوليا التي تريد أن ترى في التحولات العربية خطوة نحو استقرار سياسي واقتصادي، وبالتالي ينبغي تشجيعها.
قيل إن وجود روسيا في عداد الدول الثماني أسهم في تدوير زوايا المواقف الحادة التي يمكن أن يدفع هذا الطرف أو ذاك في اتجاهها، ذاك أن روسيا لم تتحمس أبداً للانتفاضات العربية، ولم تهتم بها، والأرجح أنها لم تكن تحبذ حدوثها، فهي ستفتقد في مصر مثلا بقايا جيل عسكري كان لا يزال متأثرا بعهدها في رعاية الجيش وتسليحه، ولا شك أنها تحسب منذ الآن نتائج خسارة محتملة لليبيا وسوريا وسواهما كزبائن لصناعاتها الحربية، لكن روسيا دولة واقعية، تنتقد الاندفاعات الغربية في تأييد الانتفاضات الشعبية ولا تلبث أن تتعامل مع نتائجها، تعترض على القصف الأطلسي لليبيا القذافي وتعرقل إدانة القمع الدموي في سوريا استدراجا لمبادرات غربية يمكن أن تعوضها المصالح التي توشك أن تفقدها، ثم إنها لا تتعمد وضع عقبات معطلة للسياسات الغربية، وعندما تجد أن quot;الممانعةquot; لم تعد مفيدة لا تتردد في الانقلاب على مواقفها، كما حصل في قمة دوفيل عندما بات المسؤولون الروس يرددون أن الزعيم الليبي فقد الشرعية.
بعد خمسة شهور على الانتفاضات الشعبية، يمكن رسم ملامح الصيغة quot;المبدئيةquot; للتعامل الغربي معها، ثمة توافق على ما يبدو على تبني المطالب بالحرية والديمقراطية حيثما يستطيع الشعب أن يعبر عن إرادته بوضوح واستمرارية، يترافق مع ذلك ثانيا ضغط ملموس على الأنظمة القائمة لحملها على وقف استخدام القوة المفرطة، وصولاً إلى حد مناوئتها واعتبار رموزها السياسية والأمنية فاقدة الشرعية ومطاردة من جانب العدالة الدولية. أما العنصر الثالث لهذا التوافق فهو أن الدور الذي يقوم به حلف الأطلسي حاليا في ليبيا هو أقصى ما يريده الغرب عسكرياً، وبالتالي فإن التدخل العسكري البري غير وارد مهما كانت الظروف، ولعل العنصر الرابع غير المعلن هو توافق استنتاجي مفاده أن دول الغرب لن تعمد إلى التحريض على التحرك الشعبي في الدول غير الديمقراطية لكن المستقرة، معتبرة أن نجاح الانتفاضات الخمس القائمة تتمتع بسمات عدوى عالية، أي أنها لابد أن تؤثر في محيطها.
الأكيد أن العنصر المفقود في هذه التوجهات الغربية تجاه العالم العربي هو العزم على إيجاد الحل السلمي والعادل للقضية الفلسطينية وثمة في الغرب من يلاحظ أن التقاعس عن حل هذه القضية والتأييد المتحمس للتحولات نحو الديمقراطية ينطوي على تناقض مفضوح، إذ لا يمكن الدول الغربية أن تحافظ على مواقفها القديمة من إسرائيل وأمنها ووظيفتها، وأن تشجيع الإصلاح السياسي وتوطيد الحريات، فيما هي متمسكة باعتباراتها القديمة أو بالشروط الإسرائيلية التعجيزية لتحقيق السلام، صحيح أن وضع القضية الفلسطينية قد لا يكون مقلقاً لإسرائيل طالما أن الدول العربية ستبقى متخلية عن خيار العودة إلى الحرب، لكنه في ظل حكومات منتخبة ومجتمعات أقل توتراً على الصعيد الداخلي قد يستعيد أولويته وأهميته لأن الشعوب العربية سترفض بالتأكيد أي تطبيع بين أنظمتها الجديدة وإسرائيل وستعمل على زيادة عزلتها.
وإذا كان بيان قمة الدول الثماني دعم quot;رؤيةquot; باراك أوباما للسلام، كما عبر عنها في خطاب 19 (مايو) وفيها تبنيه لدولة فلسطينية في حدود 1967م، فإن اللافت في البيان قوله إن لحظة استئناف عملية السلام quot;حانت الآنquot;، غير أن الدول الغربية ومعها روسيا واليابان، باتت مدركة أن المشكلة توجد حاليا عند إسرائيل التي ترفض أي سلام، ولم يعد هناك أي منطق في تجاهل هذه المشكلة أو في مخاطبة طرفيها على أنهما متساويان في المسؤولية عن جمود المفاوضات، ومن الواضح أن الولايات المتحدة لم تسع على نحو حثيث إلى نيل موافقة الدول الأخرى على إعلان اعتراض مبكر على سعي الجانب الفلسطيني إلى طلب التصويت على quot;الدولةquot; في الجمعية العامة للأمم المتحدة في (سبتمبر) المقبل، ولو فعلت لواجهت خلافات مع روسيا، لكن أيضا مع دول أوروبية ترغب في تمرير هذا التصويت من دون إثارة الشارع العربي.
يبقى أن المقلق في التحولات العربية أن بعض الانتفاضات الشعبية تنذر فعلاً بحروب أهلية يمكن أن تطيل الأزمة من دون أن تطيل أعمار الأنظمة التي تسعى إليها في هروبها إلى أمام، صحيح أن مثل هذا التطور يثير القلق، لكن لا يعني في نظر الدول الغربية، ولا في نظر الشعوب الثائرة، أن الأنظمة على حق في مواصلة العناد أو التقتيل، فمن الطبيعي أن تكون حالات التغيير متفاوتة بسلميتها أو بعنفها، وكلما ترجح اللجوء إلى العنف كلما عني ذلك أن النظام المعني أدرك أنه ذهب بالاستبداد إلى أقصاه وذهب بتجريف المجتمع السياسي إلى حد أفقده في اللحظة المناسبة إمكان التحاور مع أحد، أو إيجاد موالين يمكن الاعتماد عليهم لتأمين خروج آمن من المآزق أو مخارج ملائمة لصيرورة البلاد.
التعليقات