Gary Gambill

يصعب تطبيق عملية انتقالية ناجحة بهدف إرساء الديمقراطية في ظل الظروف الحالية في سورية، فلا شك أن أي حكومة سورية منتخبة سيسيطر عليها السُّنة، وهي ستحرص حتماً على تلبية مطالبهم وستكون على أتمّ استعداد لفرض عدالة قاسية تعويضاً عن العقود الماضية من الاستبداد القمعي، ولا يمكن أن يقبل الأسد عملية انتقالية مماثلة إلا إذا أصبح نظامه على شفير الانهيار.
بينما تحاصر القوات السورية مدينة حماة، لا يزال باراك أوباما ونظراؤه الأروبيون يعللون النفس بأن يقتنع الرئيس السوري بشار الأسد بإدارة مرحلة انتقالية سلمية تمهيداً لإرساء الديمقراطية، وبدل أن ينضم المبعوث الأميركي إلى دمشق، روبرت ردفورد، إلى المحتجين لمطالبة الأسد بالاستقالة، عمد إلى تشجيع المعارضين على إقامة حوار مع النظام.
لسوء الحظ، لا وجود لأي ظروف محتملة يمكن أن تجعل من العملية الانتقالية الديمقراطية خياراً منطقياً بالنسبة إلى الحاكم المحاصَر، ومن المستبعد على ما يبدو أن يقبل الشعب السوري سلمياً بأقل من ذلك، ومن المتوقع أن تكون معركة الشعب السوري في سبيل الحرية طويلة وشائكة وعنيفة.
تعود المشكلة في الأصل إلى بنية السلطة السورية الفريدة من نوعها كونها تخضع لحكم الأقلية، وغالباً ما يُقارَن هذا الوضع مع العراق في عهد صدام حسين، فقد لا يكون العلويّون، الذين يشكّلون 12% من الشعب السوري، ldquo;الأقلية المميزةrdquo; التي تتحدث عنها التقارير الإعلامية الغربية، ولكنهم يتمتعون بالذكاء والقوة مقارنةً بأي نظام سياسي استبدادي وعلماني آخر لأن أي نظام مشابه ما كان ليصمد في هذه الظروف.
بفضل التضامن السائد بين العلويين، يبدو ولاء جهاز الأمن العسكري الداخلي متيناً جداً، ما يسمح للأسد بفرض مستوى عالٍ من القمع بما يتخطى قدرات معظم الحكّام الاستبداديين الآخرين. تُعتبر الحملة الانتقامية الأكثر دموية خلال صراع بولندا الطويل في سبيل الديمقراطيةndash; ما أسفر عن مقتل تسعة من أعضاء حركة التضامن في ديسمبر 1981- موازية ليوم هادئ من بعد ظهر الجمعة في سورية اليوم، فقد قُتل أكثر من 1400 شخص نتيجة إطلاق النار في أقل من أربعة أشهر، وسرعان ما تفككت الشرطة في عهد الرئيس المصري حسني مبارك في ظل ضغوط مماثلة، بينما خطط جيشه لإسقاطه خلال فترة تقلّ عن ثلاثة أسابيع. تساهم الوصمة الدامغة التي طبعت الهيمنة على أغلبية سنية في تمكين وتقوية دولة الشرطة هذه. صحيح أن الانتماء الطائفي للأسد وضبّاطه ليس سبب المشكلة الرئيسة بالنسبة إلى معظم السوريين، غير أن أقلية الشعب، بين 10 و20% من الناسndash; معظمهم من السُّنة المتدينين- يكرهون النظام بشدة، ما يمنع تعاونهم معه، فهم سيستغلون أي استراحة من الحملة القمعية للتعبئة ضد النظام، فهذا الوضع يؤدي إلى تغذية مخاوف معظم العلويين على وجودهم، وبالتالي سيستحيل في هذه الحالة أن يتحرر النظام بطريقة آمنة.
يصعب تطبيق عملية انتقالية ناجحة بهدف إرساء الديمقراطية في ظل هذه الظروف، فلا شك أن أي حكومة سورية منتخبة سيسيطر عليها السُّنة، وهي ستحرص حتماً على تلبية مطالبهم وستكون على أتمّ استعداد لفرض عدالة قاسية تعويضاً عن العقود الماضية من الاستبداد القمعي، ولا يمكن أن يقبل الأسد عملية انتقالية مماثلة إلا إذا أصبح نظامه على شفير الانهيار، وفي تلك المرحلة سيكون تسليم السلطة بطريقة سلمية أمراً مستبعداً جداً.
لقد حلّت دول أخرى هذه المعضلة عن طريق التفاوض على اتفاق يقبل بموجبه النظام الاستبدادي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة مقابل قبول المعارضة بحدود صلاحياتها في الحكومة الجديدة في ما يخصّ معاقبة أو طرد المساهمين القائمين فيها. من خلال إشراك الأشخاص الذين يتمتعون بالنفوذ اللازم لإعاقة عملية انتقالية سلمية، لطالما ساهمت مواثيق الإنقاذ في تحقيق إنجازات ديمقراطية صلبة في ظل مناخ سياسي شائك مماثل، كما حصل في جنوب إفريقيا في حقبة الفصل العنصري وفي تشيلي في عهد الجنرال أغوستو بينوشيه.
تستلزم أي عملية انتقالية مبنية على ميثاق معين أن تفضّل نسبة مهمة من النخبة الحاكمة خيار ldquo;إرساء الديمقراطية مع الحصول على ضمانات موثوقةrdquo; بدل تحمل عواقب متابعة احتكار السلطة بالقوة. يشمل المستفيدون من الحكم الاستبدادي المعتدلين الذين يملكون أصولاً قابلة للاستبدال وتكون مسؤوليتهم الجنائية محدودة كي ينجحوا في عالم الديمقراطية ldquo;الحقيقيrdquo;، والمتشددين الذين يكونون في وضع معاكس. حين تتراجع قدرة النظام على تهدئة الأوضاع بالقوة، تتزايد دوافع المعتدلين لإيجاد تسوية سياسية مع المعارضة.
لسوء الحظ، ينتمي الأسد إلى فئة المتشددين، ففي ظل الظروف الراهنة، يمكنه الاتكال على دعم العلويين القوي، وعلى تأييد الأقليات الدينية الأخرى ورضوخ عدد من السُّنة الميسورين والعلمانيين أو العسكريين المناهضين للصهاينة. لكن سرعان ما ستتبخر هذه الانتماءات في سورية بعد إرساء الديمقراطية، وفي ظل غياب أي تهديد وشيك بحصول انتفاضة محلية كارثية، قد لا تحصل عائلة الأسد، بعد خروجها من الحكم، على دعم أغلبية العلويين.
في المقابل، لن يتأثر بالضرورة أسلوب حياة معظم موظفي الخدمة المدنية، ورجال الأعمال، والضباط العسكريين، وجميع المستفيدين من النظام الراهنndash; وهي نخبة متعددة الطوائفndash; بسبب عملية انتقالية يتم التفاوض عليها تمهيداً لتشكيل حكومة تمثيلية، لكن على خلاف مصر في عهد مبارك، لم يتمكن المعتدلون من كسب سلطة مستقلة داخل الدولة، فقدرتهم على الصمود في سورية في حقبة ما بعد الحكم الاستبدادي تضعهم خارج دائرة ثقة عائلة الأسد.
سيكون لقاعدة الدعم الشعبي التي يتمتع بها الرئيس والعلاقات المتقلبة مع المعتدلين تأثير في العملية الانتقالية الميثاقية، وبغض النظر عن الضمانات الرسمية المتعلقة بالحصانة والصلاحيات المؤسساتية التي قد ينتزعها الأسد في خضمّ هذه العملية، سيصعب عليه الصمود في سورية الحرّة بسبب ضعفه السياسي الحاد. حتى بينوشيهndash; حصد أنصاره بين 40 و50% من الأصوات الانتخابية طوال السنوات التي تلت رحيله- أدرك أن الجمهوريات الديمقراطية تتعب في نهاية المطاف من احترام وعودها تجاه الحكّام الاستبداديين الضعفاء السابقين.
حتى لو توصّل الأسد إلى عقد اتفاق معين، ستستلزم العملية الانتقالية الميثاقية أيضاً أن يتمكن النظام والمعارضة من الإعلان عن التزامات صادقة في ما بينهما، ويجب أن يقتنع الحكّام الاستبداديون الذين يوشكون على الرحيل بأن خصومهم السابقين سيلتزمون بتعهداتهم بعد تبدل الأوضاع، بينما يتعين أن يثق قادة المعارضة بأن النظام لن يتخلى عن التزاماته عند زوال خطر التعبئة الشعبية الحاشدة.
لكن لا ينطبق أي من هذين الوضعين على سورية، فبعد سنوات من القمع الحكومي، يفتقر البلد إلى أي معارضة منظّمة تتمتع بوزن مهمّ يخوّلها إطلاق وعود موثوقة للنظام، وكذلك، يشكك معظم السوريين في احتمال أن يتخذ الأسد أي خطوة جريئة نظراً إلى عدم احترامه للعهود الإصلاحية القديمة.
لا وجود لأي حل سهل لهذا المأزق، ففي العادة، يوصي الخبراء في مجال العمليات الانتقالية بفترة مطوّلة من التحرر المبني على المفاوضات بهدف تدريب محاورين موثوقين باسم المعارضة وترميم جزء من ثقة الشعب بالنظام. لكن بالنسبة إلى الأسد، لا يمكن اعتماد هذه المقاربة المنفتحة طويلاً إلا إذا امتنع خصوم النظام المتطرفون عن استغلال الوضع لإحداث تغيير ثوري. طالما يتابع النظام إطلاق النار على الشعب، فلن يتمتع أحد في المعارضة بالنفوذ الكافي لإخلاء الشوارع.
صحيح أن فجوة الثقة القائمة بين الأسد وخصومه يمكن تقليصها عبر التفاوض تحت مظلة حَكَم خارجي (تركيا هي المرشحة الأبرز لتأدية هذا الدور)، لكن سيضطر الرئيس السوري إلى اتخاذ خطوات جذرية وحاسمة للتأكيد على التزامه بالتغيير، ويجب أن تشمل تلك التدابير، على أقل تقدير، التفاوض تحت مظلة دولية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وإقصاء جميع منتهكي حقوق الإنسان من الحكومة، بدءاً من شقيقه ماهر الأسد، قائد الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة للجيش السوري.
غير أنّ محاولة الانقلاب على أعضاء الأسرة والعشيرة والطائفة ستكون بمنزلة انتحار سياسي بالنسبة إلى الأسد، الأمر الذي سيؤدي في أفضل الأحوال إلى ذهابه إلى منفى محترم (وأسوأ من ذلك بعد في حال فشلت خطته). حتى الآن، هو لم يُظهر أي استعداد للتضحية بنفسه، بل تشدد جهود الأسد الأخيرة لتنظيم ldquo;حوار وطنيrdquo; على أنه يسعى إلى الحصول على التزامات موثوقة من خصومه. لقد استثنت الجماعة المنتقاة من المعارضين لحضور مؤتمر في دمشق، في الأسبوع الماضي، شخصيات تتمتع بنفوذ مهم في أوساط المحتجينhellip; باختصار، لا يحاول الرئيس السوري التفاوض مع خصومه، بل إنه يحاول تقسيمهم وهزيمتهم.