يحيى الأمير

ليست مجرد شجاعة فقط تلك التي بات يظهرها الشارع السوري؛ وهو يثور في كل المدن والأحياء والأرياف، لكنها عبارة عن اضطرار وخيار أوحد، فالحياة وكيفما تنازل السوريون لا يمكن لها أن تستمر في ظل هذا النظام ووفق ما هو قائم من نموذج لحكم أمني لم يعد له مثيل في العالم. بينما تكتسب دول العالم شرعيتها من وحدتها، أو من ديموقراطيتها، أو حتى من اقتصادها المتين الذي يوفر حياة الرفاه، ينتزع النظام السوري شرعيته من خلال عامل واحد هو القبضة الأمنية الحديدية، والتي تمثل العلامة الوحيدة في الشارع السوري وفي حياة السوريين، وبالتالي يصبح تراجع تلك القبضة ndash; وهو أمر غير محتمل أبدا ndash; أو ثورة الشارع عليها، بداية فعلية لسقوط النظام، وهو ما يكشف بحق عن شجاعة منقطعة النظير يبديها الشارع السوري الذي يدرك حجم الأدوات القمعية التي يدير بها النظام حياة الناس ومع ذلك يخرج متحديا لها. كان بإمكان النظام السوري أن يصنع لنفسه مبرر شرعية جديدا مع انطلاق التظاهرات التي كانت تنادي بالإصلاح، ولو أنه استبعد الحل الأمني لأسهم على الأقل في تحسين الصورة القائمة في ذهن الناس عن النظام، لكن ربيع دمشق وكما يقول هيثم المالح كان مجرد شتاء بأجواء معتدلة، ورغم أن سوريا يرأسها قائد من أكثر القادة العرب شبابا إلا أنه بات من أكثرهم فشلا في إيجاد لغة غير لغة الرصاص ليتعامل بها مع شعبه. يقوم النظام السوري على قطبين اثنين هما: الأمن والفساد، مما يعني أن أية محاولة لإصلاح النظام تعني في الواقع إسقاط النظام، وخروج الفئة الحاكمة من السلطة، فكيف يمكن إصلاح الجانب القمعي والرئيس يقف على رأس النظام، وكيف يمكن وقف الفساد وهو يدار بأيدي المقربين من النظام، هذا بعيدا عن التفكير في أن التركيبة السياسية في دمشق ظلت تزداد تشوها، وظلت تلح على الجانب الأمني الحاد والقمعي كوسيلة وحيدة لإثبات الشرعية وانتزاعها، لقد قامت الثورات في مصر وفي تونس لعدة عوامل إلا أن من أبرزها أن تلك الأنظمة بدأت تتحدث عن التوريث وتمهد الطريق له، فكيف إذا كنا أمام حالة توريث قائمة أصلا، كما هو الوضع في سوريا، إذ لا يتناقض الكيان مع ذاته حينما يظل يحتفظ باسم الجمهورية بينما يأتي الرئيس إلى السلطة عن طريق توريث فج وغير مبرر للسلطة، إلا أن السوريين كانوا أكثر كرما مع الرئاسة، وبدوا متفائلين وهم يستقبلون رئيسا جديدا وشابا ومتعلما ومدنيا، ولم يلبث أن تحول ربيع دمشق إلى مجرد عنوان صحفي لا أكثر، وأدار جلاوزة النظام ظهورهم للشعب السوري وواصلوا فرض قبضتهم الأمنية، لكنهم لم يلتفتوا أبدا إلى أن جيلا جديدا من السوريين بدأ يعيد تعريف حياته، وأصر أن يكشف للنظام أن الشرعية التي تقوم على العنف والقمع لا يمكن أن تسكت طموحهم، ولا يمكن أن تبقي آفاقهم قاتمة ومسدودة. ومع اندلاع الثورات العربية وبينما اتجهت مختلف دول المنطقة إلى إعادة قراءة واقعها السياسي والتنموي والاقتصادي لم يتجه النظام السوري سوى لإعادة صقل بنادقه ومعتقلاته، لتكون سلاحه الأوحد في مواجهة أي مظاهرات قد تشهدها سوريا، وبدا أن النظام يراهن بقوة وابتهاج على قبضته الأمنية، خاصة وأن الأمن في الذهنية الديكتاتورية يؤمن بمبدأ أن الناس عليها أن تصمت إما خوفا من الموت أو بالموت، لكن النظام وبمجرد أن أعمل قبضته الحديدية لم يدرك أن كل قتيل يساوي تصاعدا في الثأر والخصومة بينه وبين الشارع، وبالتالي تصاعدا في مطالبه ضد النظام، إذ لم يلبث الشارع السوري أياما حتى أدرك أن مطالبه بإصلاح النظام لا قيمة لها، وأن القيمة الفعلية تكمن في المطالبة بإسقاط النظام. فيما مضى لم يكن النظام السوري بحاجة لمبررات للقيام بأقسى عمليات القمع، لكن الواقع الآن يحتم عليه أنه أمام مساءلة من العالم ومن الإعلام، فاتجه لإدارة المشهد إعلاميا عبر حبكات درامية بدائية ومفضوحة للغاية، وكلها قصص تم تجريبها من قبل في ثورات مصر وتونس وليبيا، فتشبث النظام بقصة المسلحين الذين لا لون لهم ولا طعم ولا رائحة ولا يشغلون حيزا من الفراغ، بمعنى أنهم غير موجودين فيزيائيا، وبالغ النظام في ذلك متوجها بكل رسائله للخارج، أما الداخل فهو ليس بحاجة إلى أي مبرر.
كانت لدى الثورتين المصرية والتونسية رهانات على الجيش الذي يدركون أنه جزء منهم، وأن ولاءه للأرض والإنسان وليس للنظام، بخلاف الثورة السورية، وهو ما يكشف عن شجاعة حقيقية لدى الإنسان السوري، هذا الذي بدأنا نتعرف عليه من جديد لا من خلال النظام ووسائل إعلام النظام بل من خلال دماء رجاله ونسائه وأطفاله، كل دول المنطقة كانت تأمل في وجود توجه حقيقي لدى النظام للقيام بأي خطوة إصلاحية حقيقية، لكن النظام السوري استهلك طاقته في القمع والتنكيل بالمتظاهرين، وفي مشاهد لا مبرر معها للصمت العربي كيفما كانت الحسابات الإقليمية جاءت الكلمة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين أمس الأول لتكشف نوعا من الخيبة الدولية من وعود النظام وتعهداته، موضحا أن (ما يحدث في سوريا لا تقبل به المملكة والحدث أكبر من أن تبرره الأسباب) ذلك أن النظام في سوريا بات من الواضح أنه لا يتعامل مع مجرد أحداث إنما مع انكشاف حقيقي لشرعية النظام، ولا وسيلة له لستر ذلك الانكشاف إلا بالحديد والنار، وهو ما يفسره ذلك الاستخدام المفرط والظالم للقوة.