برهان غليون


لا نبالغ إذا قلنا إن السوريين، داخل صفوف شباب الثورة وخارجها، بعد بلوغ ثورتهم الشهر الخامس، مع ما قدمه الشعب من تضحيات أسطورية، وما أظهره من بطولات لا توصف، يعاني من الإحباط بسبب تأخر الإعلان من قبل المعارضة عن تكوين هيئة أو لجنة، أو كما يطالب العديد من الشباب، بمجلس وطني يقود وينظم ويخطط للثورة ويرعى مصالحها ومصالح الشعب السوري في الساحة العربية والدولية. وللأسف لم ينل هذا الموضوع حقه من النقاش حتى اليوم بالرغم من أهميته وخطورته، واكتفينا جميعاً نحن المعنيين بالأمر والذين شارك بعضنا في العمل من أجل جمع أطراف المعارضة المشتتة من دون نتيجة واضحة، بالأفكار التي كنا نرد بها على أسئلة الصحفيين أو القنوات التلفزية. ولا يكفي ذلك لمواجهة مسألة اعتقد أنها أصبحت تشكل اليوم أولوية قصوى، بسبب التحديات التي تواجهها الثورة بعد تصميم النظام كما يبدو على تحويل شهر رمضان من مناسبة لتحطيم معنويات النظام وتفكيك أجهزته كما كان يخطط شباب الثورة إلى شهر لكسر إرادة الشعب وتصفية قضيته، من دون أي اعتبار لما ينجم عن هذا القرار من ضحايا بالجملة ومن مخاطر وتهديدات على وحدة الشعب واستقرار الدولة ومؤسساتها.

بداية أقول إن أزمة المعارضة السياسية الممثلة بالأحزاب وبالتكتلات المعروفة لا تتعلق بتعدديتها. فالمعارضة بالتعريف معارضات، لأن التشكيلات الحزبية والتكتلات تعبر عن تآلف مصالح سياسية وأيديولوجية واجتماعية متمايزة. ومن الطبيعي أن تعكس المعارضة هذا التمايز. وهي لا تتجسد، كما يميل البعض إلى التأكيد، في هرم أو تخلف أيديولوجياتها وبرامجها السياسية، فقد أجهزت الثورة على جميع الخلافات السياسية ودفعت إلى الواجهة أفكاراً ومهام جديدة مرتبطة بعملية التحويل العميقة التي تواكب المواجهة الدموية مع النظام القائم، وفرضت على جميع التشكيلات التكيف معها. فلا توجد خلافات برنامجية بين أطراف المعارضة السورية. وبالمقابل هناك إجماع بين قوى هذه المعارضة كافة على مسائل أساسية، كافية في نظري لخلق إطار للتعاون في إطار جبهة موحدة لدعم الثورة السورية وتطوير عملها السياسي والميداني.

فهدف الجميع أصبح اليوم بوضوح لا لبس فيه إسقاط نظام الفساد والاستبداد ومن يمثله، والانتقال بسوريا نحو دولة مدنية ديمقراطية تعددية تساوي بين جميع أبنائها بصرف النظر عن مذاهبهم وأصولهم، ويقوم تداول السلطة فيها على أساس الاختيار الحر من قبل الشعب لممثليه، والمساواة الكاملة في ما بينهم على جميع المستويات. وهناك إجماع مماثل على رفض التدخل العسكري الخارجي، والتأكيد على سلمية الثورة وتجنب أي استخدام للعنف وإدانة من يقوم به، والتمسك بوحدة الشعب السوري، ومحاربة أي شكل من أشكال التمييز والتفرقة الدينية والنزاع المذهبي أو الإثني.

ما الذي يمنع في هذه الحالة تفاهم هذه القوى على الوصول إلى رؤية مشتركة وخطة عمل واضحة وتشكيل لجنة موحدة للمبادرة الوطنية، تنسق بين جميع الأطراف وتوحد عنوان المعارضة السورية لتسهيل اتخاذ القرار والتواصل مع الرأي العام الداخلي بمختلف قطاعاته وترتيب علاقات الثورة مع محيطها الخارجي العربي والدولي؟

هناك بالتأكيد إرث العطالة السياسية النابع من إكراه المعارضة على العيش في قبر سياسي لعقود طويلة متواصلة، لا ترى منه النور ولا تستطيع التواصل مع جمهورها، وهو ما أدى إلى تحولها إلى هيكل عظمي وأفقر منظماتها من الإطارات والمواهب المتعددة التي تحتاج إليها لتتفاعل مع بيئتها السياسية وتستجيب لمتطلبات التحول والتحويل الاجتماعيين المستمرين، وحرمها في الوقت نفسه من خبرات التفاعل مع الجمهور والتواصل الفكري والسياسي معه. لقد أصبح المعارضون في سوريا quot;البعثيةquot; مستحاثات تاريخية لا حضور حقيقياً لهم في الحياة العامة، بل لقد لصق بكلمة المعارضة معنى السلبية والهامشية والعيش في الماضي. ولا يمكن لكل هذا أن لا يؤثر على سلوك المعارضة ويفسر بطء حركتها وتأخر ردود أفعالها خاصة إذا ما قارناها بوتيرة حركة الثورة الشعبية السريعة التي تتطور كل يوم بل كل ساعة.

ما يمنع المعارضة السورية من بناء قطب ديمقراطي يتحلى بحد أدنى من الاتساق والانسجام وروح المبادرة الجماعية، أمران رئيسيان. الأول نقص الخبرة السياسية الناجم هو نفسه عن الهامشية التي عانت منها السياسة وعاشها السياسيون في نظام لم يعرف سوى العنف طريقة للحكم والتعامل مع الشعب، خلال عقود طويلة، وما نجم عن ذلك من تشويه وإفساد لمعنى الفعل السياسي بحيث تحول، إلى رديف للإعلان عن الموقف الأخلاقي في مواجهة الانتهازية والوصولية السائدتين في حجر نظام جائر، وبالتالي زوال مفهومها بوصفها، قبل أن تكون خطاباً، ممارسة عملية تهدف إلى تغيير الواقع، وتتكيف وتكيف وسائلها وتكتيكاتها حسب حاجات هذا التغيير.

ففي غياب مفهوم السياسي كفاعل أو مغير، تحولت السياسة إلى التأكيد على مواقف مبدئية فحسب. وقد يدفع مثل هذا التأكيد في حالة كالحالة السورية إلى الانعزال والانغلاق على النفس والعيش في شرنقة يحتفي فيها الأفراد، كالمتصوفة، بمواقفهم الأخلاقية وابتعادهم عن السلطة، ويقبلون عن طيب خاطر لا فاعليتهم بل سكينتهم المفقودة.

والأمر الثاني النابع هو نفسه من غياب أجندة التغيير العملي، هو تركز السياسة على الذات الفردية، التي هي موطن المواقف المبدئية والأخلاقية. وهذا ما ولد أيضاً الاستثمار في الخصائص الشخصية، ونّمى التنافس بين الذاتيات المتميزة على تمثيل السياسة والصراع على تجسيدها واحتكار رمزيتها. فليس الاختلاف في وجهات النظر ولا في الإيديولوجيات، ولا في البرامج والخطط التنفيذية هو الذي يسبب الخلاف أو يخلق التباعد بين الأحزاب والكتل السياسية، وإنما حجم التنافر والتناغم بين زعاماتها أو الأشخاص الحاملين لرمزيتها. لذلك لا يقدم تذليل المصاعب الفكرية والسياسية أي فرصة للالتقاء ما لم يحسم سلفاً التنافس بين الأفراد وتحديد مواقعهم في أي تشكيلة محتملة أو بديلة. وغالباً ما أخذ الحل حتى الآن شكل الجمع بين الأطراف، أو إضافة أسماء وجمعها بعضها إلى البعض الآخر، من دون تحديد الصلاحيات وتعيين المسؤوليات القيادية المثيرة للقلق والنزاع، أو التخفيف ما أمكن منها ومن السلطة المرتبطة بها، تجنباً لإثارة الحساسيات الخاصة، وحتى لا يشعر أحد بأن هناك من يتقدم في الرمزية السياسية على الآخر.

الوحدة بوصفها تراكماً وتجميعاً، لا تنظيماً لنوعية العلاقات والمسؤوليات داخل جماعات متشاركة في تحقيق مشروع واحد، تتجلى أيضاً في المنهج الذي اتبعته المعارضة السورية منذ شهرين للتوصل إلى تكوين هيئة تتجاوز الحساسيات الشخصية التي تمنع التفاهم بين الأطراف. وهو تكرار المؤتمرات السياسية الجامعة التي تسعى إلى تجاوز التشكيلات القائمة مع تمثيل جميع الفئات وتيارات الرأي والقبائل والمذاهب فيها. والنتيجة أنه بدل التوصل إلى هيئة واحدة تقود المعارضة أو تمثلها، سيسفر الأمر عن نشوء هيئات متعددة كل منها مرتبط بالمؤتمر الذي ولد منه، وحريص على أن يكرس حضور هذا المؤتمر وتميزه واستقلاله عن المؤتمرات الأخرى. وبدل أن تساهم في توحيد الأحزاب الموجودة أصلاً أو نجمع بينها في تآلف واسع، أصبح تنظيم المؤتمرات باسم المعارضة ولخدمتها منبعاً لمزيد من الانقسام وتشتت الجهد والوظائف المكررة. وبدل أن تكون هناك لجنة واحدة جدية ومقنعة للعلاقات الخارجية وجدنا أنفسنا أمام لجان متعددة غير مقنعة ولا تملك الصدقية فما بالك بالقدرة على الفعل.

ما الحل إذن؟ يسعى شباب الثورة الذين يشعرون أكثر من غيرهم بوطأة غياب المبادرة السياسية الموازية للتقدم على الأرض، أي انعدام القدرة على استثمار التضحيات الكبيرة لتحقيق المكاسب السياسية التي هي الهدف، إلى طرح مشاريع متعددة، منها تنظيم القوى السياسية المفتقرة للروح، أي للفعل، وبالتالي العاجزة عن رؤية الهيكلية التي يحتاجها الفعل، من خارجها، ومن حيث يسيطر الفعل، أي من صفوف الثورة ذاتها، أي إلحاقها بالثورة ووضعها في خدمتها. ومنها أيضاً قيام التنسيقيات نفسها بتشكيل قيادتها السياسية، ومنها أخيراً تفويض بعض الأشخاص الذين يرون فيهم شيئاً من التمثيلية لقيم الثورة وأهدافها، ودفعهم إلى التحرك على الساحة العربية والدولية.

وفي اعتقادي أن المنعطف الجديد الذي نجم عن رفض النظام التخلي عن حلوله الأمنية من جهة، وتطور الموقف الدولي كما عبر عنه بيان منظمة الأمم المتحدة الرئاسي من جهة ثانية، يفتحان نافذة أمل كبيرة ستشجع المعارضة على التقاط أنفاسها والارتفاع إلى مستوى مسؤوليتها، وإلا لن يكون هناك مهرب من تشكيل لجنة مبادرة وطنية من شخصيات مستقلة تعمل بالتنسيق مع شباب الثورة وتستكمل عملهم في تقويض أركان النظام والإجهاز عليه.