منار الشوربجي
رغم أن أحداث لندن تستحق في ذاتها الدراسة والاهتمام، إلا أن أكثر ما لفت انتباهي هو تعليق تكرر في كثير من مقالات الرأي في الصحف البريطانية، يقول إن تلك الأحداث quot;لا سياسيةquot;، لأنها لم تحمل مطالب سياسية ولم ترفع شعارات سياسية، وإنما كانت مجرد أحداث عنف وتخريب وسرقة على نطاق واسع.
وحين تأملت تلك المقولة، وجدتها ذات دلالة بالغة، فهذه المقولة في ظني هي ذاتها أحد أعراض الأزمة التي تعيشها بريطانيا. فكتاب الرأي في الصحف الكبرى ينتمون للنخبة الاقتصادية الاجتماعية، التي يبدو أنها تمارس إنكارا واضحا لطبيعة الأزمة، وهي أزمة لا بد للتعامل معها من إعادة تعريف ما هو quot;سياسيquot; في الأساس.
صحيح أنه لم تكن هناك مطالب سياسية مرفوعة، لكن ما جرى كانت أسبابه سياسية، وتداعياته التي بدأت تبرز على السطح ذات طابع سياسي هي الأخرى، بل إن الفعل نفسه إذا ما أمعنا النظر فيه فعل سياسي هو الآخر.
فأحداث العنف التي امتدت لأكثر من مدينة بريطانية، انطلقت كلها بعد واقعة محددة، وهي مقتل شاب من أصول إفريقية على يد رجال الشرطة بعد توقيفه. وقالت الشرطة وقتها إنها فعلت ذلك دفاعا عن النفس، لأن الشاب عند توقيفه كان يحمل سلاحا صوبه تجاههم، وهو ما ثبت بعد ذلك أنه لم يحدث.
بعد مقتل الشاب مباشرة، تجمع العشرات من أبناء الحي الفقير الذي كان يقطنه، تضامنا مع ابن حيهم وعائلته، وذهبوا إلى قسم الشرطة طالبين تفسيرا لما جرى، لكنهم لاقوا معاملة بليدة من رجال الشرطة، ثم إذا بهم يضربون فتاة في السادسة عشرة من عمرها، كانت من بين المتجمهرين من أبناء الحي الفقير.
بعدئذ مباشرة، اندلعت أحداث العنف التي سرعان ما انتقلت بعد ذلك إلى عدد من المدن الأخرى. وقد أسفرت الأحداث عن اعتقال أكثر من 2000 شخص.
حين قرأت تسلسل الأحداث، تذكرت على الفور أحداث الشغب التي شهدتها مدينة لوس أنجلوس الأميركية، والتي سرعان ما امتدت لعدد كبير من المدن الأخرى في عام 1992، بعد أن كان أحد هواة التصوير قد سجل بالفيديو واقعة توقيف الشاب الأسود quot;رودني كينغquot; وضربه بلا رحمة على يد رجال الشرطة، ثم حين رفعت القضية للقضاء تمت تبرئة رجال الشرطة من جانب دائرة قضائية منحازة، رغم ما اقترفوه تجاه كينغ والمسجل بالصوت والصورة، الأمر الذي أدى لاندلاع أحداث العنف في المدينة.
ومثل تلك الوقائع ليست جديدة في بريطانيا نفسها، حيث اندلعت أحداث عنف لسبب مماثل في عام 1981.
والحقيقة أن جوهر الأزمة في كل تلك الوقائع سياسي - اقتصادي. ففي بريطانيا، كما في الولايات المتحدة الأميركية، يميل رجال الشرطة لاستهداف الملونين، خصوصا الذكور وتوقيفهم دون مبرر سوى لون جلدهم. وقد أثبتت الإحصاءات في البلدين أن عدد الذين يتم توقيفهم عشوائيا من السود، يفوق كثيرا من يتم توقيفهم من البيض.
أضف إلى ذلك عاملاً آخر لا يقل أهمية، وهو البعد الاقتصادي والاجتماعي. فإذا كان الملونون فقراء، ترتفع نسبة التحرش بهم، حيث يستخدم الفقر مبررا لتوقيفهم بحجة البحث عن مخدرات أو بحجة تفتيش مساكنهم لمكافحة الجريمة.
والبلدان أيضاً لهما سجل في حالات عدم محاسبة رجال الأمن عند اعتدائهم على المواطنين السود تحديداً، الأمر الذي يؤدي للشعور بالمرارة لدى الأقليات، وينشر بينهم اليأس في المستقبل.
ومن هنا، فإن ما جرى في بريطانيا في جوهره سياسي، إذ هو نتيجة لعدة أسباب، على رأسها غض الطرف من جانب الحكومات المتعاقبة، عن سياسات عنصرية تستهدف المواطنين من أبناء الأقليات.
فالانفجار وقع بعد قتل الشاب مباشرة، لكن الانفجار الذي بدأ احتجاجا على تجاوزات الشرطة، سرعان ما تحول إلى موجة عنف شديدة أتت على الممتلكات الخاصة والعامة، ونهبت المحال التجارية واستهدفت أقسام الشرطة.
لكن تلك الموجة التي لم تحمل أية مطالب سياسية، كان جوهرها سياسي في المقام الأول، يتعلق بالعنصرية المؤسسية تجاه الأقليات. أما السبب الثاني، فرغم أن السياسات المالية والاقتصادية للائتلاف الحاكم لم تكن السبب المباشر للأحداث، إلا أنها كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. فهي انضافت إلى سياسات عقود طويلة، أدت لاتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، حتى إن ما يحصل عليه 1% من البريطانيين يزيد مائة مرة عما يحصل عليه الباقون.
وقد حمل العام الحالي مؤشرات تدل على أن قطاعات واسعة صارت تعاني اقتصاديا. فقد شهدنا احتجاجات طلابية وإضرابات ومسيرة شارك فيها 500 ألف من أعضاء اتحادات العمال، فما بالك بما يعانيه الفقراء من الملونين! بعبارة أخرى؛ فإن ما حدث مؤخرا جزء من سلسلة من الاحتجاجات الاقتصادية، لكن المهمشين حين يثورون فإنهم لا يقدمون مطالب سياسية، وإنما يكشفون عن غضبهم الجامح تجاه المجتمع كله الذي يتجاهل معاناتهم، في شكل العنف العشوائي.
وتداعيات ما جرى، سياسية هي الأخرى، تتعلق بعسكرة المجتمع البريطانى وتقويض الحريات. فالحكومة البريطانية رفضت الاعتراف أصلاً بوجود علاقة بين مقتل الشاب الأسود وما جرى، وأصرت على وصف الأحداث بأنها quot;إجرام بحتquot;.
ثم راحت تبحث عن وسائل قمعية، فاعتقلت المئات ودججت مدينة لندن بأعداد من أفراد الشرطة غير مسبوقة في تاريخ المدينة، وهددت بنزول الجيش للشوارع، ثم سمحت لرجال البوليس باستخدام خراطيم المياة والرصاص البلاستيكي لتفريق المتجمهرين.
بل إن حكومة كاميرون فكرت جدياً في وقف المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية التي يتواصل من خلالها من خرجوا للشوارع.
الموضوع برمته، إذن، سياسي بامتياز، وإنكار ذلك هو في رأيي أحد أعراض المشكلة، وليس تحليلاً موضوعياً لها.
التعليقات