مرام عبدالرحمن مكاوي
شهد العام الماضي (١٤٣٢/٢٠١١) ثورات عربية غير مسبوقة، أزاحت أنظمة جثمت بعضها على قلوب شعوبها لأكثر من أربعة عقود. تغييرات دراماتيكية لم يكن أحد يعتقد قبل عام بأنها ستحصل فعلاً! لكنها مشيئة الله وسنته في الكون ثم إرادة الشعوب التي صبرت طويلاً ثم هبت وغيرت واقعها المزري أملاً بمستقبل أفضل، هذا المستقبل تجسده اليوم تونس، حين انتخبت برلمانها ورئيسها بشكل حضاري وأثبتت للعالم أن الشعب إذا أراد الحياة.. فلا شك في أن الله سيستجيب وسيتغير القدر.
ومع بداية كل من محرم ويناير كانت الشعوب المتحررة تحتفل بالعهد الجديد، رغم بعض الإخفاقات الحالية هنا والاختلالات الأمنية هناك والصراعات البينية، والتي نأمل أن تكون مؤقتة وأن تنتهي هذه المرحلة الانتقالية سريعاً، وحده الشعب السوري استقبل عامه الجديد بالمزيد من الدماء، والكثير من القمع، والقليل من الوعود الإقليمية والدولية المترددة، وشيء من التغطية الإعلامية الباهتة. فهنا شعب يُنحر، ومسجد يُقصف، ونساء يُختطفن، وطفل يُعذب.. فهل من مستجيب؟
دمشق ليست طرابلس الغنية بثرواتها النفطية، ولا العراق بثرواته الطبيعية وقدرته على إنتاج الأسلحة الكيميائية وموقعه الجغرافي على الخليج، فحلف النيتو ودوله وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وإيطاليا لا تجد على ما يبدو سبباً كافياً لتشن عليها هجوماً إعلامياً وسياسياً وعسكرياً كذلك الذي شنته على ليبيا.. فما من عقود مرتقبة هنا.
أما الرئيس الأمريكي أوباما الذي يتطلع لفترة رئاسية ثانية فلديه أكثر من سبب يدفعه لتجاهل الوضع السوري. فمن ناحية كان إنهاء الحرب في العراق وسحب القوات منها من وعود حملته الانتخابية الأولى، وهي مهمة يحرص على القيام بها الآن من أجل أن يواجه الناخب الأمريكي وهو يقول المهمة انتهت، بغض النظر عن الوضع الأمني في العراق. كما أن صعود نجم الحركات الإسلامية السياسية وعلى رأسها quot;الإخوان المسلمونquot; في كل دول الربيع العربي وحتى خارجه كما في المغرب، تجعل النظام الأمريكي يفضل التعامل مع النظام الأسدي، الذي يتفنن في قتل شعبه ويطلق الشعارات النارية ضد إسرائيل لكنه في الحقيقة quot;لا يهش ولا ينشquot; ضد دولة الكيان الصهيوني. فإدارة أوباما تفضل التعامل معه على الاضطرار للتفاوض مع نظام يرأسه تيار إسلامي بديل. وهناك خوف من أن تتحول سوريا إلى ملاذ للجماعات المتطرفة المسلحة التي تكن لأمريكا ولإسرائيل كل العداء، وهذه الفوضى على حدود الكيان الصهيوني غير مرغوبة بالمطلق. ويبدو أن واشنطن قد توصلت إلى قناعة بأنه حين يأتي الأمر لسوريا فلا يبدو أن هنا طرفا قادرا على إنهاء المعركة بسهولة، فقد ينتصر النظام أو يطيل أمده إلى حين، وقد تنتصر الثورة، وفي الحالتين كلتيهما فالأفضل ألا تتدخل أمريكا ولا تضطر لاختيار من تنحاز إليه بشكل صريح وعملي.. فالكرة في ملعب السوريين هذه المرة.
وإذا أتينا للصينيين والروس، لوجدنا بأن حلفاء دمشق المخلصين يوفرون لها غطاء دولياً يمنع استصدار قرار ضدها في مجلس الأمن مجاملة لهاتين الدولتين العظميين، اللتين لا تريدان المخاطرة بحليف قوي وشبه وحيد لهما في منطقة الشرق الأوسط. وهكذا يضيع دم الشعوب هدراً وسط صراعات الأمم العظمى ومصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية وتنافسها الإقليمي والكوني.
أما الموقف العربي مما يحدث في سوريا فيصفه كثيرون بأنه دون المأمول، ففي حين ساندت دول عربية وخليجية الثورة الليبية بالمال والسلاح والدعم الإعلامي والسياسي، فإن الثورة السورية لم تجد إلا قراراً يتيماً بتعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية وفرض عقوبات اقتصادية عليها، تلتها مبادرة تمثلت في إرسال مراقبين عرب إلى سوريا أملاً في وقف العنف لكن ذلك لم يحدث، وتشير التقارير إلى عدم مقدرة المراقبين على أداء عملهم كما ينبغي، وبالتالي عدم القدرة على إنجاز مهامهم وهي حماية المدنين السوريين، والعمل على وقف جميع أعمال العنف في المدن والأحياء السكنية، ومنع الأمن والشبيحة وغيرهم من التعرض للمظاهرات السلمية.
النظام السوري الدموي يستفيد من كل هذا التردد العربي والانقسام الدولي، فيزداد عتواً ونفوراً، بل بات يلجأ لأساليب مناورة رخيصة لا تنطلي على طفل سوري، وذلك بفبركة بعض الهجمات الانتحارية في الأماكن العامة، وإلصاقها زوراً بالثوار والإسلاميين، لعله ينجح في إقناع أحد ما بأن هذا النظام العلماني شكلياً (الطائفي فعلياً) هو البديل الأفضل في مقابل الإرهابيين المتطرفين، وأن ما يحدث في سوريا اليوم ربما يمكن تبريره بمكافحة الإرهاب، الغطاء الذي سنه الرئيس بوش لتبرير جرائم مرعبة بحق الدول والشعوب منذ مطلع الألفية الجديدة.
لا شك أن التدخل العسكري الدولي في الدول العربية مرفوض، فالمرء لا يستبدل نظاماً محلياً قمعياً ديكتاتورياً باحتلال أجنبي غير موثوق النوايا ولا مرهون بزمن معين، والعراق وأفغانستان مثالان صريحان لفشل التدخل الأجنبي في بناء الدول حتى وإن نجح في إسقاط الحكومات. إلا أن هناك أمثلة لتدخل عسكري محدود وضربات جوية لإنقاذ المدنيين كما حصل ضد يوغسلافيا مثلاً والذي كان الحل الوحيد والأخير والذي أنقذ المسلمين في البوسنة والهرسك (١٩٩٥) وكوسوفا لاحقاً (١٩٩٩). لكن قبل التدخل العسكري هناك حلول سياسية ودبلوماسية أخرى يمكن أن تعجل بسقوط النظام وتقطع عنه الأنابيب التي تمده بالأكسجين فيسقط من تلقاء نفسه، ومن الأجدى أن تتولى الدول العربية القضية السورية، وتكون هي القائدة في مساعدة الشعب السوري في تحديد مصيره.
خادم الحرمين الشريفين قال في خطابه الشهير في رمضان الفائت quot;مستقبل سوريا بين خيارين إما الحكمة أو الفوضىquot;. ويبدو أن الحكمة قد فقدت من دمشق منذ زمن طويل، ولا يلوح في الأفق سوى الفوضى والمزيد منها، ما لم يتعاضد أولئك الذين يحبون سوريا لحلها بشكل جذري، وإلى أن يحدث ذلك..فلك الله يا أرض المنشر والمحشر.. سوف يأتي الربيع حتماً وإن طال الشتاء فتزهر براعم الياسمين.
التعليقات