عبدالله ناصر العتيبي


حسناً فعل الحكوميون الخليجيون بوضع مقترح الملك عبدالله بن عبدالعزيز على الأرض. وجميل أنهم عرضوه مؤخراً في الرياض للمناقشة والتحليل والتصميم والبناء. وحسناً سيفعلون لو أطلعوا شعوبهم على مراحل التحليل والتصميم والبناء وانتظروا منهم الكلمة الفصل عبر استفتاءات عامة. وجميل أكثر لو أنهم، بعد الحصول على الـ laquo;نعمraquo; في الاستفتاءات العامة، أوكلوا أمر قيادة الاتحاد إلى برلمان خليجي موسع يكون له الحق وحده في تشكيل مجلس اتحاد خليجي أعلى يرسم الحاضر والمستقبل السياسي والاقتصادي والأمني لدول الخليج.

الشعوب الخليجية تستحق من حكامها كل الخير لوقوفها خلفهم في هذه المرحلة المضطربة من عمر التاريخ، ولعدم مراهنة هذه الشعوب على بدلاء لحكامها، بعكس ما هو حاصل الآن في كل المنطقة العربية. والحكام يستحقون من شعوبهم الولاء والطاعة والثقة المتجددة لقيادتهم البلاد خلال العقود الماضية بحكمة عميقة وسلوك إداري مسؤول، الأمر الذي انعكس إيجاباً على الحالة الاقتصادية لمواطني دول مجلس التعاون، وكذا التطور الاجتماعي والثقافي الملموس للمجتمعات الخليجية التي كانت توصف في خمسينات القرن الماضي بالرجعية والتخلف من قبل إعلام ونخب الدول التي اكتشف أبناؤها مؤخراً أنهم ضحايا كذبة سياسية وثقافية كبيرة. ويكفي أن نقارن الوضع الاقتصادي لمواطني الدول العربية التي تمتلك موارد طبيعية ضخمة مثل العراق والجزائر وليبيا، باقتصاديات مواطني دول مجلس التعاون الخليجي، لندرك الفرق بين ثورة العقل وعقل الثورة!

لكن برغم هذا التوافق التاريخي والعلاقة ذات الروابط المحكمة بين قادة دول مجلس التعاون الخليجي وشعوبهم، إلا أنه مطلوب من الطرفين أن يباشرا جملة تغييرات لا بد من تفعيلها للحفاظ على المكتسبات التي تحققت لهذه الدول خلال نصف قرن، وليسهل عليهم كذلك الدخول في منظومة اتحادية تطور من اقتصاديات الدول الست وتبني أيضاً مصدات أمنية تقي المواطن والمقيم في هذه الدول شر التقلبات الإقليمية والعالمية، ولعل من أبرز هذه التغيرات ما يأتي:

أولاً: التخلي عن النظر إلى الحكومة على أنها رشيدة على الدوام، فلربما جانبها الرشد في دورة وزارية ما، واحتاجت إلى تغيير يرضي الشارع، ويرمم الصورة الذهنية التي يحتفظ بها منذ سنوات طويلة للأسر الحاكمة!

ثانياً: التخلص تدريجياً من الغطاء الرعوي الأبوي القبلي الذي تتمظهر به الأسر الحاكمة في الخليج واستبداله بعلاقة تتناسب مع الحال المدنية التي يعيشها المواطن الخليجي.

ثالثاً: العمل لبناء مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل دورها في أجواء من الحرية، لتوازن العمل الحكومي وترتفع به في فضاءات خدمة المواطن، وعلى الأسر الحاكمة ألا تنظر إلى هذه المؤسسات على أنها منافس شعبي أو قوى جديدة تهدف إلى سحب الحضور الممتد عبر التاريخ منها، بل يفترض بها أن تكون في صفها لمواجهة laquo;الأداء الحكوميraquo; الذي هو في نهاية الأمر أداة متغيرة للنخب الحاكمة.

رابعاً: على الشعوب أن تتخلى عن الانتماءات الفرعية التي تأخذها بعيداً من مفهوم الدولة الحديثة، وذلك من خلال تدريب مكوناتها على التغريد بعيداً من دائرة شيخ القبيلة ودائرة رمز الطائفة ودائرة المرجع الديني. وعلى الأسر الحاكمة أن تساعد في هذا الأمر من خلال السماح بخلق فضاءات انتخابية في كل مكان، ليتعود المواطن على الفعل الانتخابي منذ نعومة أظفاره، بدءاً بالانتخابات المدرسية ومروراً بانتخابات لجان الحي الذي يسكن فيه، وانتهاءً بالانتخابات البرلمانية (يكفي أن نعرف أن هناك أربعمئة وخمسين ألف عملية انتخابية تجري في أميركا وحدها سنوياً). تعدد الممارسات الانتخابية للمواطن سيبعده شيئاً فشيئاً عن تسليم عقله لشيخ القبيلة ورمز الطائفة والمرجع الديني، وسيجعل منه مواطناً مستقلاً واثقاً من أهمية استقلاله ومؤمناً في تأثير صوته. ويجب أن تفهم الأسر الحاكمة في الخليج أن تعدد الانتخابات ليس مصدر تهديد لوجودها وإنما هو تطور واقعي laquo;لحكمتها العميقة وسلوكها الإداري المسؤولraquo;.

خامساً: على الحكومات القائمة تعريف laquo;المواطن الخليجيraquo; وتحديد هويته ورسم ملامحه الجديدة وبيان مسؤولياته وواجباته تجاه الاتحاد الجديد، وتفصيل حقوقه المكتسبة قانوناً تبعاً لهويته الخليجية الجديدة، إذ لا يكفي أن نصنع غطاءً كبيراً من التوافقات الحكومية من غير أن نوفر لها أساساً من البناء الشعبي الذي يحمل الهوية القُطْرية في كفة والهوية الخليجية laquo;المكتملة والواضحة المعالمraquo; في الكفة الأخرى.

سادساً: عدم الجنوح إلى فكرة الكونفدرالية التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام، فقطر ليست مقاطعة ويلز والسعودية ليست إنكلترا. يكفي أن نتحد عسكرياً واقتصادياً في العشرين عاماً المقبلة، مع وجود مجلس اتحادي يرسم وينفذ الرؤى السياسية الخارجية وما يتصل بذلك من تبعات وجود صوت تنفيذي واحد مقابل ستة أصوات استشارية.

الاتحاد الخليجي هو خلاص دول المنطقة ولا بديل منه، لكن على الكل - أسراً حاكمة وشعوباً - أن يضحوا قليلاً ويتنازلوا كثيراً عن المكاسب الوهمية التي صنعتها لهم حالة laquo;غياب الخطرraquo;. فالخليج قوي بأبنائه وأسره الحاكمة، والتوافق التاريخي بين الحاكم والمحكوم، سيمتد لعقود مقبلة إن شاء الله. لكن علينا جميعاً، حكاماً ومحكومين، أن نتغير احتراماً للسنن الكونية وليس خضوعاً لإفرازات المرحلة.