القاهرة - أحمد أبو المعاطي

تحبس مصر أنفاسها اليوم بعد أيام من الترقب الحذر، انتظاراً لما سوف تنتهي إليه المحكمة الدستورية العليا من أحكام، تتعلق على نحو مباشر بمصير المرحلة الانتقالية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، والترتيبات المتعلقة بشكل الحكم في ldquo;الجمهورية الجديدةrdquo;، في ظل أجواء لم تخل على مدار الأسبوعين الماضيين من تباينات شديدة الحدة، ومشاعر إحباط وغضب في نفوس قطاع كبير من المصريين، هؤلاء الذين فاجأتهم نتائج صناديق الاقتراع في الجولة الأولى للانتخابات، بخروج جميع مرشحي الثورة من السباق الرئاسي، لينحصر الاختيار في النهاية بين طرفين، يمثل كل منهما مشروعاً سياسياً لا يتناقض مع ما نادت به الثورة من حرية وكرامة وعدالة اجتماعية فحسب، وإنما يدفع بالبلاد إلى طرق أخرى محفوفة بالمخاطر والألغام .

ينظر كثير من المراقبين في مصر إلى ما سوف تنتهي إليه المحكمة الدستورية العليا، اليوم الخميس، من أحكام باعتباره سوف يتجاوز في تأثيراته، قدرة البرلمان الحالي على سن القوانين والتشريعات إلى ما يمكن وصفه بrdquo;خرائط المستقبلrdquo; بما تشمله تلك الخرائط من توازنات للقوى الجديدة، على خلفية ترتيبات نقل السلطة وحساباتها، وأدت حالة الارتباك في إدارة المرحلة الانتقالية، إلى إحالة الأمور إلى منصة القضاء ليقول كلمة الفصل، في لحظة فارقة من المؤكد أن نتائجها سوف تلقي بظلال كثيفة على المشهد العام برمته، كما أنها لن تخلو من تداعيات .

ربما تكون تلك هي الأزمة الأعنف التي تواجهها الثورة المصرية على مدار عام ونصف العام، فالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية من المقرر لها أن تنطلق محلياً بعد غد، السبت، والقنصليات والسفارات المصرية في مختلف دول العالم أنهت بالفعل فرز الأصوات التي شاركت في الاقتراع في الجولة نفسها على مدار أسبوع، بدا خلاله أن مرشح حزب الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسي يحقق تقدماً لافتاً على منافسه، لكن الحقائق على أرض الواقع شيء، وما قد تنتهي إليه من مفاجآت شيء آخر، فالأسئلة لاتزال معلقة، وفي مقدمتها: هل تصل الانتخابات الرئاسية إلى نهاية خط السباق بعد حكم الدستورية اليوم، أم سيتم تأجيلها إلى وقت لاحق؟ وهل سيتم حل البرلمان بما يترتب على ذلك من بطلان لما انتهى إليه من تشريعات على مدار الأشهر الخمسة الماضية، أم سوف يستمر لنهاية فترته القانونية استناداً إلى القاعدة المهجورة ldquo;المجلس سيد قرارهrdquo;، تلك التي استند إليها النظام السابق، في مواجهة آلاف الطعون ومئات الأحكام القضائية التي صدرت ضد برلماناته المتعددة على مدار الثلاثين عاماً الماضية؟ أو بمعنى أدق: هل تنتهي المرحلة الانتقالية حسبما أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في غير مناسبة مع نهاية يونيو/حزيران الجاري، بتسمية رئيس جديد، ليعود إلى ثكناته، أم أن مصر ستكون على موعد إجباري مع مرحلة انتقالية جديدة، تعالج ما انتهت إليه المرحلة السابقة من أخطاء بلغت حد الخطايا، يصوغ فيها دستوراً يحدد شكل الدولة المرتقبة، وتنتخب برلماناً حقيقياً يعبر عن روح ثورة مدنية بالغة التحضر والرقي، يراقب السلطة التنفيذية من دون مزايدة، ويسن التشريعات باحترافية لا تفتح أبواب الطعن؟

مشهد لا مثيل له

المشهد كله يبدو حسبما يرى المحلل السياسي عبد الله السناوي ldquo;لا مثيل له في التاريخrdquo;، فالوطن أمام محنة حقيقية، تتمثل في أن مصيره صار معلقاً في رقبة حكم قضائي، ما يعني أن البلاد صارت أمام محنة للقضاء والوطن معاً، ويضيف السناوي: ldquo;ليس من شأن القضاء في مصر، وفي غير مصر، أن يرسم خرائط الطرق السياسية، أو أن يحدد موازين القوى وأحجامها عند انتقالات السلطة، فهذه كلها من أدوار السياسة لا المحاكم، لكن فشل ldquo;السياسة المعتمدةrdquo; كان سبباً رئيساً في إحالة الملف كله إلى قوانين تنظر، وأحكام تصدر وجمهور ينتظر مصائره، من دون أن يكون طرفاً في اللعبة الأخيرةrdquo; .

المؤكد أن مصر تبدو اليوم في حقيقة الأمر، أمام منعطف شديد الخطورة والوعورة في آن، وهي تشبه إلى حد كبير شاحنة مكشوفة محملة بأغراض متعددة، وتسير بسرعة لا تمنح قائدها فرصة للسيطرة عليها في المنعطف، لذا فمن الطبيعي أن تتساقط أشياء، وأن تتحطم أشياء أخرى أكثر، تحت وطأة سرعة بلغت على مدار عام ونصف العام من الثورة حد الرعونة، من دون أن يشعر ركاب الشاحنة في خضم صراعهم الذي فجرته قبل عام أو يزيد قليلاً ldquo;فتنة الاستفتاءrdquo; ومتاهة الانتخابات أم الدستور أولاً، إنهم جميعاً على موعد مع مواجهة الخطر .

لا أحد في مصر يعرف حتى اليوم ما الذي يمكن أن تنتهي إليه المحكمة الدستورية العليا في ما يتعلق بمدى دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية، الذي أقره البرلمان قبل أسابيع، والمعروف باسم ldquo;قانون العزلrdquo;، لكن المؤكد أن الحكم الذي سوف تنتهي إليه اليوم، من شأنه أياً ما كان أن يقلب موازين السباق الرئاسي رأساً على عقب قبل يومين من بدء الاقتراع في صناديق الجولة الثانية، ذلك أن قراراً بدستورية مثل هذا القانون، سوف يعني عملياً استبعاداً فورياً للمرشح المستقل الفريق أحمد شفيق من السباق، فيما الرجل يقف على بعد خطوات من خط النهاية، وهو الأمر الذي من شأنه حسبما يرى كثير من المراقبين أن يفتح الباب من جديد أمام عودة جديدة وساخنة لفوضى ldquo;الانفلات الأمنيrdquo;، تلك التي هدأت كثيراً خلال الأسابيع الأخيرة التي ظهر فيها شفيق منافساً، الأمر الذي يؤشر حسب كثيرين إلى احتمال ضلوع الرجل الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء في آخر أيام النظام السابق، والقوى التي تقف خلفه ومعظمها من رجال المال والأعمال، أو السياسيين السابقين في الحزب الحاكم المنحل؛ في استخدام ldquo;فزاعة الانفلات الأمنيrdquo; كواحدة من أخطر وسائل الضغط السياسي، لإخلاء الطريق أمام مرشحهم الرسمي، قبل فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية .

في 13 مايو/ أيار الماضي أيدت المحكمة الإدارية العليا، قراراً صدر عن اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات الرئاسية، بإحالة قانون ldquo;العزل السياسيrdquo; إلى المحكمة الدستورية العليا للبت فيه، في إجراء منح المرشح أحمد شفيق رئيس مجلس الوزراء الأسبق الحق في استكمال السباق الانتخابي، بعد قرار صدر عن اللجنة فور صدور القانون من البرلمان، وتصديق المشير محمد حسين طنطاوي عليه بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم للبلاد خلال الفترة الانتقالية .

سيناريوهات محتملة

كان شفيق قد استند، في طعن تقدم به إلى المحكمة الإدارية العليا على قرار اللجنة باستبعاده وفق قانون العزل السياسي، إلى ما اعتبره مخالفة صريحة للإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس/آذار من العام الماضي، وقانون تنظيم الانتخابات الرئاسية، وهو ما دفع اللجنة في نهاية الشوط إلى إحالة القانون بما تملكه من صفة قضائية إلى جانب صفتها الإدارية، إلى المحكمة الدستورية العليا، وسط جدل قانوني، إذ اعتبر معارضون للقرار أن اللجنة الرئاسية تجاوزت دورها وصفتها باعتبارها تمارس عملاً إدارياً صرفاً، لا يجوز معه أن تكون الخصم والحكم في الوقت نفسه .

على مدار الأسابيع الماضية تداولت المحكمة الدستورية العليا قانون العزل السياسي عبر عدة جلسات تحضيرية، قامت خلالها هيئة المفوضين التابعة للمحكمة، بإعداد تقرير بالرأي القانوني في شأن دستورية أو عدم دستورية القانون، وقد تضمن التقرير بحسب مصادر قضائية رفيعة العديد من النقاط الخلافية، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام ثلاثة سيناريوهات، تتعلق على نحو مباشر بجولة الإعادة في السباق الرئاسي المصري .

السيناريو الأول، يتمثل في الحكم بأغلبية آراء قضاة المحكمة بدستورية القانون، وهو ما يعني على نحو مباشر إبعاد الفريق أحمد شفيق من السباق الرئاسي، وفي هذه الحالة فإن اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات الرئاسية ستكون أمام ثلاثة اختيارات أيضاً، أولها أن تجرى انتخابات الإعادة على مرشح واحد، فيما يشبه الاستفتاء، وهو الدكتور محمد مرسي، الذي سوف يصل إلى نهاية السباق بعد إقصاء غريمه، وهو أمر يستبعده كثير من القانونيين الذين يقولون إن اللجنة الرئاسية لن يكون أمامها في مواجهة هذا الموقف سوى تصعيد المرشح حمدين صباحي، الحاصل على أعلى الأصوات بعد شفيق، ليخوض جولة الإعادة، فيما يظل الاختيار الثالث قائماً، وهو أن تقوم اللجنة بإعادة الانتخابات من جديد بين جميع المرشحين باستثناء المرشح المبعد، وإن ظل الاحتمال الأخير هو الأقرب للتنفيذ، وإن كان الأعلى تكلفة .

السيناريو الثاني يتعلق بأن تصدر المحكمة قراراً بعدم دستورية التعديلات، وهو ما سوف يعني استمرار السباق الرئاسي بين مرشحي جولة الإعادة، فيما يظل السيناريو الثالث هو الأقرب، وهو أن ترفض المحكمة طلب الإحالة المقدم لها من ldquo;الرئاسيةrdquo; لعدم اختصاص الأخيرة، ما يعني التنفيذ الفوري للقانون الذي أقره البرلمان، ليعود الملف مجدداً للجنة العليا للانتخابات التي ستكون مضطرة إلى فتح الباب من جديد أمام انتخابات، لن يكون شفيق طرفاً فيها لأنه سيكون بحكم القانون معزولاً سياسياً .

طريق ثالث

الحقيقة أن مصر سوف تكون اليوم أمام موعد مع القدر، فإما أن تنتهي الأحكام إلى طريق ثالث يمكن من خلاله أن يفلت المصريون من تلك المحنة العصيبة بالاختيار بين ldquo;بديلين كلاهما مرrdquo;، لم يحصلا معاً في الجولة الأولى للانتخابات على 50% من جملة الأصوات الصحيحة، وهو تصويت لا يمكن أن يؤسس حسب كثير من المراقبين لشرعية، وإما أن تجرى الانتخابات في مواقيتها، وبالصورة التي انتهت إليها نتائج الجولة الأولى، وفي تلك الحالة فإن احتمالات انفجار ثورة شعبية جديدة تظل حاضرة في الأذهان، فالجماعة لن ترضيها الهزيمة أمام أحد ممثلي النظام السابق في حالة فوز الأخير، وكذلك قوى الثورة مجتمعة، كما أن فوز الجماعة في ظل عدم تقديمها أي تطمينات للقوى المعارضة لها، ربما يدفع باتجاه أعمال عنف واسعة، قد يجد الجيش نفسه مضطراً معها للتدخل على نحو مغاير لما ظهر به طوال العام الماضي لحماية الشرعية، بينما يظل احتمال آخر من المؤكد أن جميع اللاعبين الرئيسيين على الساحة المصرية لا يرغبون فيه الآن قائماً، وهو نفسه ذلك الذي هدد به مبارك قبل ما يزيد على عام في إحدى رسائله الأخيرة من القصر الرئاسي للثوار في ميدان التحرير، عندما قال: أنا أو الفوضى .