عبدالله خليفة الشايجي

على عكس النصيحة التي نصحني بها الكثير من الأصدقاء والمطلعين على تعقيدات الشأن اللبناني المحير وصعب التحليل، بتمضية عطلة مناسبتي يومي الوطني والتحرير في الكويت، في لبنان... قررت أن أمضي تلك العطلة في ربوع لبنان في هذا الشتاء الجميل لأكتشف لماذا يستمر لبنان ككيان ودولة وشعب مخالفاً قوانين الطبيعة بكل قوته الناعمة مثاراً للتساؤل. فكيف لدولة تقليدياً كانت أشبه بمطبعة ومستشفى ومطبخ العرب، وكيان هو الحلقة الأضعف في إقليمه ونظامه وتركيبته، وكيف أن لبنان هو مسرح لتصفية حسابات الآخرين ومؤخراً صندوق بريد تتنقل وترسل الرسائل من خلاله لمن يهمهم الأمر... واليوم لبنان يواجه فتنة- مذهبية - طائفية بين مكوناته وحرباً مشتعلة تتمدد لأرضه من سوريا وخلافات سياسية واجتماعية حول قانون انتخابات وزواج مدني!

أجد مبالغاً ما يفاخر به اللبنانيون بأن وطنهم رسالة وليس دولة! رسالة ماذا؟ التعايش بين الطوائف المسلمة والمسيحية؟ التخندق الطائفي والمذهبي في لبنان أطاح بتلك الأداة من أدوات القوة الناعمة اللبنانية؟ لبنان بكل ألوانه المذهبية والطائفية والدينية التي تضم 18 طائفة معترف بها رسمياً يشكل استثناء في المنطقة العربية. التقسميات الطائفية والمذهبية والتمييز بين مواطنيه على أسس مذهبية وطائفية مزعجة مربكة وتكرس الطائفية والمذهبية ما يخالف اتفاق الطائف لعام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان. وصل الأمر في لبنان أن يقسم نوابه الـ128 إلى 50 في المئة مسلمين و50 في المئة مسيحيين! في بلد يطالب العديد من شبابه بالعلمانية والزواج المدني خارج إطار المسجد والكنسية والدين! فيما يطالب التيار السلفي والجماعات الإسلامية السُنية بإعلان الجهاد... ويتحالف المكون الشيعي بأغلبيته وواجهته laquo;حزب اللهraquo; مع إيران بعد أن قاتل إسرائيل وصمد بوجهها، وحرر جنوب لبنان، لكن على حساب تدمير البنية التحتية اللبنانية. ويقف في خندق موال للمقاومة مع النظام السوري بعكس مطالبات الحكومة اللبنانية العاجزة عن تقديم الكثير، وتتبع سياسة laquo;النأي بالنفسraquo;عن الشأن السوري حيث قتل العديد من اللبنانيين على الحدود بين البلدين، وأنهى laquo;حزب اللهraquo; النأي اللبناني بالنفس بتورطه ودعمه للنظام السوري، وتحول بالتالي إلى دولة وكيان أقوى من الدولة اللبنانية نفسها!

المثير للدهشة أنه حتى التعيينات في الوظائف القيادية والإدارية من الرؤساء الثلاثة للجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، والمديرين العامين في الوزارات والإدارات وحتى عمداء الكليات في الجامعة اللبنانية تعتمد في توزيع المناصب القيادية المدنية والعسكرية والقضائية على التوزيع الطائفي والمذهبي وخاصة للطوائف الثلاثة الكبرى السُنة والشيعة والمسيحيين الموارنة. وقد خاض اللبنانيون حروباً طائفية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وآخرها كانت الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، والتي انتهت باتفاق الطائف الذي بقي بلا تطبيق لكامل بنوده. ما يُبقي التوزيع الطائفي والمذهبي ولبنان رهينة للطوائف وأمرائها حيث لم تعد الأجزاء المبعثرة، والتي تستقوي بطوائفها ومذاهبها، قادرة كأجزاء وفرق قادرة على تكوين كيان واحد موحد هو لبنان، الذي بات مجزءاً ومفتتاً، وهذا ما بات يعرف بـlaquo;اللبننةraquo;، التي يخشاها الكثير، وخاصة في العراق وغيره.

أتيت إلى بيروت في يوم ماطر، وفوجئت بالطائرة التي أقلتني من الكويت ممتلئة... فلم أكن المغامر الوحيد؟ مفاجأتي أن دولة تفتقر للخدمات السياحية من أمن واطمئنان ومرافق وخدمات أصبحت ترفاً في بيروت وأصعب الحصول عليها خارج العاصمة. فكيف لا يمكنك أن تجد مقعداً واحداً شاغراً في الطائرات المتجهة إلى بيروت في الأعياد والإجازات في ظل هكذا ظروف؟ وإذا أضفنا إلى ذلك كله الاحتقان الأمني وتحذيرات رئيس مجلس النواب بـlaquo;أن الوضع الأمني ليس جيداًraquo;، والخلافات السياسية والتخندق المذهبي حول قانون انتخابات laquo;القانون الأرثوذكسيraquo;، والذي يزيد من الشرخ والتقسيم في الجسد اللبناني، ويجعل الناخب اللبناني يصوت لطائفته والمرشحين من أبناء مذهبه، وليس لأي مذهب آخر... وهذا ما يطلق عليه اللبنانيون تجاوزاً laquo;الديمقراطية التوافقيةraquo; وlaquo;العيش المشتركraquo;، والذي باتت شعارات لا تعني على أرض الواقع شيئاً، بل نموذجاً نافراً ومزعجاً ومُنتهي الصلاحية. وغير قابل للتصدير أو الإقناع بالرغم من الفضائيات اللبنانية والإعلام اللبناني الرائد والمُوزع طائفياً ومذهبياً بين مكونات المجتمع اللبناني يعجز عن لم شمل اللبنانيين ويفشل في إقناع الآخرين في الخارج بأن laquo;لبنان رسالة وليس دولةraquo;!

وكأن لبنان ينقصه المزيد من التعقيدات، فظهر في خضم المشهد المرتبك ما يثير المزيد من الجدل- ظاهرة الشيخ السلفي أحمد الأسير الذي دخل في مواجهة مفتوحة مع المشروع الإيراني وlaquo;حزب اللهraquo; في لبنان. وطفا على السطح الخلافات حول الزواج المدني الذي تعارضه دار الإفتاء السُنية والشيعية والكنيسة المارونية، ويدعمه الليبراليون والعلمانيون ويُقسّم بالتالي اللبنانيين.

وهناك ظاهرة مزعجة أخرى تدل على غياب النظام والدولة، والأمن والظاهرة المقلقة التي يعشيها لبنان تم اختطاف طفل من أمام منزله وطلب الخاطفون فدية من والد الطفل المخطوف، ولاحقاً قام الخاطفون بخفض قيمة الفدية إلى 100 ألف دولار... وأطلقوا سراح الطفل بعد أن تسلم الخاطفون الفدية... وزادت مؤخراً حوادث الخطف وتصفية الحسابات، حيث أختطف 35 شخصاً مقابل دفع فدية... المؤلم أن خبيراً أمنياً يحمد الله على إحدى الفضائيات بأن حوادث الخطف هي لأسباب مالية وليست بدافع مذهبي أو طائفي!! وينام ويفيق لبنان على إضراب المدرسين المتواصل والدعوة لإضراب عام مفتوح والمطالبة بزيادة الرواتب!

المزعج في ظل ذلك كله غياب الدولة كلياً، وتحول لبنان إلى دولة تنخرها الفوضى وتستشري فيها كل تلك الظواهر، التي تشير إلى أن لبنان يعيش في وضع غير طبيعي. وما يزيد المشهد اللبناني تعقيداً هو أنه يبقى الحلقة الأضعف في تمدد الثورة السورية، والتي بالرغم من نأي لبنان نفسه عنها، فإنها فرضت نفسها عليه بالتمدد والقصف والمشاركة وأكثر من 300 ألف لاجئ في لبنان. ثم يحذر رئيس الوزراء العراقي المالكي أن انتصار الثورة في سوريا سيقود لحرب أهلية في العراق ولبنان...ما يعيد عقارب الساعة للوراء وبشكل أكثر شراسة وعنفاً.

في اليوم الأخير من وجودي في بيروت، لخص كاتب لبناني الوضع بشكل مؤلم معلقاً:laquo;الفوضى العارمة التي تعمّ البلاد على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والمعيشية والعمالية والنقابية، إضافة إلى زيادة السرقات وعمليات الخطف مقابل فدية، والبطالة المستشرية بين جيل الشباب، كلها مؤشرات لها دلالة واحدة هي انحلال الدولة وعجزها شبه الكامل عن تأمين أبسط حقوق مواطنيها المتمثلة في الأمن والعدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.raquo;

غادرت لبنان متأسفاً على حاله، وما آلت إليه الأوضاع في بلاد الأرز... لكنني بالرغم ذلك كله لم أندم على زيارتي. إلا أنني استمتعت بجو لبنان وجبله وساحله ومطبخه المتنوع والحلوى المميزة... كلي أمل في أن يستقر لبنان وتتعايش طوائفه وأقلياته وينجح بتدوير الزوايا ليصبح رسالة!