نوال السعداوى

&فى طفولتى تصورت أن مصر أقوى البلاد، وأبى أعظم الناس، لكن راودنى السؤال: لماذا لا يظهر أبى فى الصحف كما يظهر الملك؟


ضحكت أمى وقالت: «الملك يملك الأراضى والقصور والجنود، وأبوك لا يملك إلا زوجته وأطفاله والهتاف فى المظاهرات»، كان إدراكى يزيد يوما بعد يوم، وكلما يزيد إدراكى ينقص حجم أبى وينكمش الوطن، ثم ادركت أن العالم محكوم بالقوة، رغم ذلك لم تفارقنى الدهشة الطفولية لغياب العدل.&

فى 15 يوليو 2015، كان الاتفاق النووى بين إيران والدول الست الكبري، غضبت إسرائيل لاعتقادها أن إيران ستملك السلاح النووى، مع أن إسرائيل تملك ترسانة نووية ضخمة، وأمريكا تعدها بصفقات أسلحة جديدة متطورة، وأن هذه الاتفاقية ستحول دون امتلاك إيران للسلاح النووى الى الأبد، وأن التفتيش سيفرض على إيران كما فرض على العراق، رغم أن العراق لم يمتلك أسلحة نووية، ولم يفتش أحد إسرائيل رغم ترسانتها الكبيرة؟&

فى سبعينات القرن العشرين، وقعت مصر على اتفاقية نزع السلاح النووى، لم توقع أمريكا وهى دولة نووية كبري، ولم توقع إسرائيل وهى تملك الترسانة الخطيرة، وكانت أمريكا قد ضغطت على مصر لتوقع الاتفاقية، ولتضغط مصر بدورها على البلاد الإفريقية لتوقيعها، وضغطت مصر حتى وقعت إثنتان وأربعون دولة إفريقية، وأدت ضغوط وشنطن لتوقيع بلاد أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبى ومنطقة جنوب المحيط الهادي، أصبح النصف الجنوبى من الكرة الأرضية بدون قوة نووية، على حين تتكدس الرؤوس النووية فى إسرائيل، لتنهش بلادنا قطعة وراء قطعة، ونحن نضعف يوما بعد يوم، ولا نستطيع إنشاء قوة نووية سلمية وليست عسكرية، ولا نملك العقل المبدع لنصنع أسلحتنا بأنفسنا، لنواجه مخاطر الإرهاب المتزايدة، ثم نستجدى المعونة العسكرية من أمريكا، التى تتمنع وتتدلل وتفرض شروطها ، ثم ترسل إلينا أسلحة نصف عمر تجاوزها العصر ، وتحظى إسرائيل بأحدث الأسلحة؟&

ويراودنى السؤال: هل نستجدى من أعدائنا أسلحتهم لنحاربهم بها؟ وأرتدى طاقية الإخفاء كما فعلت وأنا طفلة، لأطير فوق إسرائيل وأمريكا، فى يدى رشاشة د.د.ت، أرش الرؤوس النووية فتسقط كالذباب، يتكرر الحلم مع تكرار الهزائم، وفى صباح 5 يونيو 67 حطمت إسرائيل الطائرات المصرية وهى نائمة، فأصبحت أطير فى الليل لأضرب الطائرات الإسرائيلية قبل أن تصحو.&

سافرت لإيران ( نوفمبر 1968) لحضور مؤتمر طبى، ومن الباب الخلفى للقاعة هربت لألتقى بالأدب الإيرانى، كان الأدب فى حياتى كالطفل اللقيط، غير معترف به وسط الأطباء، أمارسه كالحب الآثم فى الخفاء، أنفس به عن وطأة حياتى الشرعية وسط الجراثيم والأمراض، وكان « جلال آل أحمد» من أهم الأدباء عند الشباب الثائر ضد حكم الشاه والمخابرات الأمريكية، الذين طوحوا بمصدق فى الخمسينات، بسبب تأميمه البترول.

&&كانت حكومة الشاه والموساد تطارد الأدباء المعارضين، بعضهم يختفى فى ظروف غامضة، جلال آل أحمد أقالوه من منصبه، وصادروا كتبه، لكن الشباب كان ينشرها بالآلاف ويوزعونها سرا، إلتقيت به وزوجته الأديبة سيمين دانشوار فى بيتهما بشميران شمال طهران، كان جلال آل أحمد يشعر بالعار لأن 90٪ من بترول إسرائيل يأتى من عبدان فى إيران، ولأن إحدى رواياته نشرتها دار المعارف بالقاهرة باللغة الفرنسية وليس العربية ، وقال لى: أريد أن يلتقى الأدب العربى والفارسى دون وسيط فرنسى، وأنديرا غاندى قالت العبارة ذاتها فى لقائى معها (شتاء 1982) فى نيودلهى: أريد أن يلتقى الأدب العربى والهندى دون وسيط إنجليزي.

&كتبت مقالا عن جلال آل أحمد، بمجلة المصور بالقاهرة (10 يناير1969) وبعد عام ونصف تأهبت للسفر لإيران لحضور مؤتمر طبى آخر فى يونيو 1970، رفضت السفارة الإيرانية بالقاهرة إعطائى تأشيرة الدخول، رغم ذلك قررت السفر، مخاطرة طفولية تقود للسافاك والسجن.&

وفى مطار طهران لم تطرف عيناى والشرطى يرمقنى، عيناه تنتقلان من صورتى (بجواز سفرى) إلى وجهى باندهاش طفولى، ثم منحنى التأشرة بابتسامة رقيقة، هل كان معارضا للشاه ومن عشاق جلال آل أحمد؟ أم أنه فقط جمالى الأخاذ؟.&

والتقيت بالأديبة سيمين دانشوار، كانت متشحة بالسواد، مات جلال آل أحمد يوم 17 سبتمبر 1969 فى ظروف غامضة، كان عمره ستة وأربعين عاما موفور الصحة والنشاط، قرأت سيمين خاتمة روايتها الجديدة: «لا تبكى يا أختاه، فى بيتك ستنمو شجرة، وأشجار كثيرة ستنمو فى مدينتك، والريح ستنقل رسالته، من شجرة الى شجرة والى كل الشجر» بذور التمرد والإبداع، زرعها الأدباء والأديبات فى عقول الشباب والشابات، حتى انفجرت الثورة الإيرانية عام 1979، شارك فيها الملايين يطالبون بالعدل والحرية والكرامة، وسقط حكم الشاه، لكن الأصولية الإسلامية مع الاستعمار الأمريكى (رغم العداء الظاهرى) تعاونا معا لتحويل الثورة الإيرانية الى حرب دينية، كما يحدث الآن فى بلادنا، لكن التفاؤل الطفولى يؤكد أن بذور الثورة والإبداع لا تموت.

&