محمد الوعيل&
لم يكن غازي القصيبي، الذي مرّت قبل أيام ذكرى وفاته السادسة، مجرّد شاعر أو أديب أو روائي، أو دبلوماسي، أو سفير، أو وزير متعدد الحقائب، لكنه كان ـ يرحمه الله ـ ذاكرة متنقلة عايشت كافة الظروف والمستجدات التي تأقلم معها بل وتجاوزها في أداء مدهش، وبشاعرية ملكت القلوب والوجدان.&
من مأزق البيئة "المشبعة بالكآبة" في الأحساء، كما وصفها ذات يوم، إلى الخروج بمبدأ إداري يجزم بأن "السلطة بلا حزم، تؤدي إلى تسيّب خطر، وأن الحزم، بلا رحمة، يؤدي إلى طغيان أشد خطورة".
&
يمكننا تلخيص 70 عاماً من حياة القصيبي الذي ملأ الدنيا شعراً ونثراً، وأدباً وعلماً.. وجدلاً أيضاً.!
&
وإذا كان القصيبي، أو أبو يارا، كما كان يحبّ، كثيراً ما يستشهد بقول الأديب السوري الراحل، محمد الماغوط، بأنه "ما من موهبة تمر بدون عقاب" ليضيف عليها: "وما من موقف يمر بلا ثمن!".. إلا أن ما تعرّض له في حياته من طعن وتشكيك بقدر ما نال أوسمة وتقديراً.. جعله يقابل كل ما يواجهه بصلابة منقطعة النظير، مؤمناً بأن نبل الفكرة وسمو الغاية، أرقى بكثير من عبارات التجريح أو الابتذال، معتبراً أن العمل والإخلاص فيه، هو وحده الكفيل بإبراء الذمة.
&غازي القصيبي، الذي عايشته كثيراً في مراحل كثيرة من مسؤولياته المتعددة، كان يرى أن فكره المنفتح، أقوى من أي انغلاق، وأن رحابة الوطن وامتداداته وتشعباته، أعمق كثيراً من أية اختلافات أو وجهات نظر، وأن قيمة الكلمة في احترام الآخر وليست في تشويهه أو النيل منه أو التعريض به.&
وإذا كان ديوانه الشهير "معركة بلا راية" يحتفظ بمرتبته المتقدمة بين دواوينه الشعرية المتعددة، إلا أنه يُلخص الجانب الآخر من فكر القصيبي، وربما يلخص مسيرته الضمنية قياساً بما أثير من جدل كبير لم يسلم منه شخصياً إزاء معارضيه في فترة التسعينيات التي شهدت كثيراً من الصخب والطعن فيه عبر المنشورات والمنابر وأشرطة الكاسيت، فأصدر حينها كتابه الأشهر "حتى لا تكون فتنة" ليكون بمثابة رسالة يوجهها نحو من جعلوا أنفسهم خصوما له.!&
ولا أنسى ما ذكره ذات يوم، حينما كان وزيراً للكهرباء والصناعة، إذ حدث قطع للكهرباء في أحد أحياء الرياض، وكان القصيبي يذهب إلى مقر الشركة ويتلقى الشكاوى الهاتفية مع موظفي السنترال كلما حدث انقطاع، وأثناء تلقيه للاتصالات، صرخ فيه مواطن غاضب قائلا: "قل لوزيركم الشاعر إنه لو ترك شِعره واهتم بعمله لما انقطعت الكهرباء عن الرياض"، فردَّ عليه بهدوء: شكرا.. وصلت الرسالة! فقال المواطن: ماذا تعني؟ فقال القصيبي: أنا الوزير! ليصرخ المواطن في دهشة: احلف بالله! ليرد: والله.. لتسود لحظة صمت وعدم تصديق قبل أن يغلق المواطن المندهش الخط.!
&مات القصيبي.. نعم، لكنه لا يزال باقياً في ذاكرة الوطن، أدباً وشعراً وإدارة ومنهجاً وسلوكاً، فيما اختفى معارضوه ومنتقدوه، ولا يذكرهم الآن أحد.
&وقفة..
تذكّر -يا سيدي -أن الزمان يشفي ما يعجز العقل عن شفائه
التعليقات