FINANCIAL TIMES
جاي تشازان من برلين
لكي تدرك تماما الرأي الحقيقي الذي يشعر به حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا حول زعيمته، أنجيلا ميركل، ما عليك سوى أن تنظر إلى أونترمارشتال. هذه البلدة التي يعيش فيها 900 شخص في المنطقة الجنوبية الغربية الريفية الموسرة من البلاد، هي معقل لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي - لكن ليس بالضرورة للمرأة التي قادت الحزب خلال السنوات الـ 17 الماضية.
هوبيرت بولد، عقيد سابق في الجيش الألماني، يصل إلى أونترمارشتال لحضور مؤتمر محلي خاص بحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. عندما طلب منه تفسير الأداء البائس للحزب في الانتخابات الوطنية التي جرت في أيلول (سبتمبر)، ألقى باللوم على ميركل، قائلا إنها جنحت بعيدا جدا عن قاعدتها. "المحافظون هنا لا يشعرون بأنها تمثلهم".
فالتر هايميرل، بائع زهور من قرية ألميندينجين المجاورة، يعبر عن رأي لاذع بدرجة أكبر. يقول: "حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي ليس حزب المستشارة فقط، كما تعلم. لماذا هي من يحدد المسار دائما؟".
الإنهاك من ميركل آخذ في الانتشار في أجزاء كبيرة من ألمانيا - وحتى حزبها لم يسلم من ذلك. أصبح أعضاء الحزب – من مختلف المراتب – منتقدين على نحو متزايد. بشكل روتيني يطالب موظفون محليون وناشطون شباب باستقالتها، وهو نوع من العصيان لم يكن حتى الآن من الممكن تصوره في مثل هذا الحزب الهرمي.
الاستياء من أداء ميركل هو الموسيقى الخلفية المصاحبة لهذه الأزمة التي كان سببها انهيار المحادثات المتعلقة بتشكيل ائتلاف حاكم جديد هذا الشهر. وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه والحزب البافاري الشقيق، الاتحاد الاجتماعي المسيحي، يأملان الآن في تشكيل "ائتلاف كبير" مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، من يسار الوسط، ما يعني من الناحية العملية استمرار التحالف الذي حكم ألمانيا خلال السنوات الأربع الماضية. إن لم يفلح ذلك تستطيع المستشارة محاولة تشكيل حكومة أقلية، أو الضغط لإجراء انتخابات جديدة - وكلاهما لم يسبق أن حصل في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن تشكيل ائتلاف كبير جديد هو أمر سيئ للغاية من وجهة نظر كثير من أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. فهم يشعرون أنه خلال الأخذ والرد المتواصل مع شريك يساري، خسر الحزب الديمقراطي المسيحي النزر اليسير الذي لا يزال لديه من الهوية المحافظة. وميركل هي من قاد تلك العملية. يقول مانويل هاجل، أمين عام فرع الحزب في الولاية الجنوبية الغربية، بادن - فورتيمبيرج، التي تقع فيها قرية أونترمارشتال: "ميركل وضعت البرجماتية قبل صورة حزبها".
هذا الاستياء في قلب ألمانيا يتناقض بشدة مع الاحترام الكبير الذي لا تزال تحظى به المستشارة الألمانية على الصعيد العالمي. فابنة القس البالغة من العمر 63 عاما المتحدرة من الشرق الشيوعي لا تزال تعتبر صخرة من الاستقرار وحصنا من القيم الليبرالية في عالم مضطرب يحكمه ترمب. وهي وجهت أوروبا وقادتها خلال أزمة اليورو وترأست طفرة طويلة الأجل في موطنها، مرسخة بذلك سمعة ألمانيا محركا قويا في القارة.
الإحباط على المستوى الشعبي لا يعني أن أيام ميركل باتت معدودة. بعد انهيار محادثات الائتلاف، التف التسلسل الهرمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي حول المستشارة داعما لها. لا يوجد في وجهها منافسون واضحون، والاحتمال هو أنها ستتمكن من التغلب على الأزمة وستواصل حكمها لألمانيا. علينا ألا ننسى أنها أقوى صورة للناجي السياسي. فقد صمدت أمام رد الفعل العنيف الذي ترتب على قرارها السماح لأكثر من مليون لاجئ بدخول ألمانيا في عام 2015/2016. وهي كمستشارة ورئيسة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لا تزال منيعة.
لكن منذ الانتخابات يقول بعضهم إن عرشها في تراجُع. تحمل اليمينيون في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي ميركل لأنها واصلت قيادتها للحزب حتى تحقيق النصر وشكلت ائتلافات مستقرة. لكن في أيلول (سبتمبر) حقق التكتل المحافظ أسوأ نتائج له منذ عام 1949. وبعد مضي عشرة أسابيع تقريبا لا تزال ألمانيا بلا حكومة مناسبة. وقد شجع ذلك النقاد لإطلاق انتقاداتهم. يقول أحد كبار أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي: "أصبحت ميركل شخصية تسبب الاستقطاب، خاصة بالنسبة لليمين. قبل ذلك لم يكن يتجرأ أي أحد أن يقول في حقها شيئا سيئا علنا - الآن أصبح ذلك ضمن الطيف الطبيعي للآراء داخل الحزب. أصبح لديها بالتأكيد سلطة أقل مما كانت معتادة عليه".
لا يتم التعبير عن أي من هذا الغضب في المناصب العليا من الحزب. وبالنسبة لبعضهم يشير ذلك إلى وجود فجوة خطيرة بين القاعدة الشعبية للحزب وقيادته. يقول أليكساندر ميتش، زعيم "اتحاد القيم"، وهو جماعة ضغط محافظة داخل الحزب: "أصبح الحزب منقسما" والجو السائد بين أعضاء الحزب "سيئ، بل هو أسوأ وضع وصل إليه الحزب منذ انضمامي إليه قبل 32 عاما".
المزاج سيئ ولا سيما في بادن - فورتيمبيرج، الإقليم محافظ تقليديا الذي يضم الحرفيين المتدينين والزراع وصغار رجال الأعمال، الذي هو أيضا موطن لكبار الشركات الصناعية، مثل شركة مرسيدس- بنز، وبورش، وروبرت بوش. هناك حصل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي على 34 في المائة فقط من الأصوات في انتخابات أيلول (سبتمبر) - منخفضا بذلك 11 نقطة عما حققه في عام 2013. وعلى الصعيد الوطني خسر مليون ناخب أمام حزب "البديل لألمانيا"، وهو حزب يميني مناهض للهجرة حصل على مقاعد في البرلمان الألماني للمرة الأولى.
أعضاء الوفود المشاركة في المؤتمر السنوي لفرع حزب الاتحاد الديمقراطي المحلي الذي انعقد في أونترمارشتال، البلدة الواقعة على ضفاف نهر الدانوب، المحاطة بتلال خصبة يعلوها دير يعود إلى عصر الباروك، لم يكونوا متمردين بأي حال. بول جلوكلر، الرئيس المحلي، تحدث بهدوء عن "الانتكاسات المؤلمة" والحاجة إلى "مواجهة الواقع" و"تفحص جميع السياسات التي ننتهجها". وكان أهل البلدة الطيبون يشيرون بالموافقة وهم يتناولون شطائر السجق.
لكن في الممرات وأثناء فترات الاستراحة كان بعضهم، مثل هايميرل، أكثر صراحة. السبب في أداء الحزب الضعيف كان سياسة "الباب المفتوح" المثيرة للجدل التي انتهجتها ميركل في تعاملها مع اللاجئين في عام 2015/2016. يقول: "الناس هنا محافظون جدا، وكثير من الأعضاء لم يستوعبوا ما فعلته. حزب البديل لألمانيا استحوذ عليهم جميعا".
بعد أن قضت فترة 12 عاما مستشارة، لطالما كانت ميركل هدفا لحزب الديمقراطي المسيحي اليميني الذي يتهمها بأنها عملت بلا هوادة على تحويل الحزب نحو الوسط السياسي. فقد أمرت بإغلاق محطات الطاقة النووية في ألمانيا بعد كارثة فوكوشيما وألغت الخدمة العسكرية. وأغضبت المحافظين في المالية العامة بدعمها عمليات الإنقاذ في اليونان وغيرها من بلدان منطقة اليورو الأخرى المنكوبة، وأدخلت نظام الحد الأدنى للأجور وخفضت سن التقاعد إلى 63 سنة. ومن ثم جاء قرارها المثير للجدل، في ذروة أزمة اللاجئين عام 2015 بإبقاء الحدود الألمانية مفتوحة.
بسبب القرارات التي من هذا القبيل، بحسب هاجل، يعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى حد كبير "حزبا من يسار الوسط". ويضيف أثناء احتساء القهوة في أونترمارشتال: "عانى المحافظون في الحزب بعض الشيء على مدى الأعوام القليلة الماضية".
يجادل أشخاص مهمون في الحزب في برلين بأن التحول إلى اليسار في ظل حكومة ميركل سمح للحزب بكسب ملايين الأصوات الانتخابية من الحزب الديمقراطي الاجتماعي والسيطرة على مركز الوسط في السياسة الألمانية. لكن هاجل غير مقتنع بذلك. يقول: "لا أوافق على فكرة أنك بهذه الطريقة تكسب من الأصوات من اليسار أكثر مما تخسر من الأصوات في اليمين".
كارستن لينيمان، أحد النجوم الصاعدة في الجناح المحافظ لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، يرى أن التحول إلى اليسار ساعد أيضا على دفع صعود حزب البديل لألمانيا. يقول في مكتبه في مقر البرلمان الألماني في برلين: "أعتقد أننا تركنا فراغا في جناح اليمين من الحزب. الطبيعة تمقت الفراغ، وفي السياسة يجب دائما ملء الفراغ - في هذه الحالة من خلال حزب البديل لألمانيا". ويلقي كثير من المحافظين باللوم على ميركل بسبب الحقيقة التي مفادها أن ألمانيا الآن لديها حزب يميني متطرف في البرلمان للمرة الأولى منذ أكثر من 60 عاما.
في الوقت التي كانت فيه أزمة اللاجئين تجرجر أذيالها، شعر المحافظون في بادن - فورتيمبيرج وغيرها من المناطق بأن أصواتهم لا تُسمع في برلين. ويستشهد كثيرون بحادثة وقعت في كانون الأول (ديسمبر) 2016 عندما صوت المؤتمر السنوي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لمصلحة قرار يحد من حق بعض اللاجئين في الحصول على جنسية مزدوجة. وهو قرار رفضته ميركل على الفور.
يقول دانيال هاكينيوس، رئيس فرع MIT في بادن فورتيمبيرج، وهي منظمة أعمال تابعة للحزب: "كان ذلك بمنزلة صفعة في وجه ديمقراطية الحزب. وإذا واصلت عملها ضمن ذلك السياق، حينها لن يؤدي ذلك إلا إلى زيادة الإحباط بشكل أكبر".
يقول فيليب بوركله، رئيس قسم بادن - فورتيمبيرج في "اتحاد يونجه"، جناح الشباب في الحزب، في العاصمة الإقليمية شتوتجارت: "أصبح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وكأنه حزب مصمم لشخص واحد فقط؛ ميركل".
لكن أصوات التذمر والسخط ازدادت حدة بعد إجراء الانتخابات في أيلول (سبتمبر). بالنسبة للينيمان كان أداء الحزب سيئا جدا لأنه ضل الطريق عن قيمه الجوهرية. يقول: "نحن الآن في موقف عصيب جدا. من ناحية، العلامة المميزة لنا تدور بأكملها حول القانون والنظام. من ناحية أخرى يربطنا كثير من الناخبين مع ما حصل في ألمانيا في عام 2015" - عندما عبر الحدود عشرات الآلاف من الأجانب غير الشرعيين ممن لا يحملون وثائق رسمية. "نحتاج إلى أن نصبح مرة أخرى حزبا يمثل سيادة القانون، والنظام، والأمن".
طالب لينيمان "بإلقاء نظرة مطولة وثاقبة على نتيجة الانتخابات، لتحديد مواطن الخلل واستخلاص العِبر". لكن حتى الآن يوجد شيء من هذا القبيل.
بدلا من ذلك تسببت ميركل في نشر الفزع والذهول عندما قالت أثناء مؤتمر صحافي عقب الانتخابات إنها "لا ترى ما هي الأمور التي ينبغي فعلها بطريقة مختلفة". بالنسبة للنقاد أشار ذلك إلى عدم وجود رغبة في تعلم درس من النتيجة. يقول هاجل: "السؤال هو - هل نستمع للرسالة التي أرسلها إلينا الناخبون من خلال تصويتهم لمصلحة حزب البديل لألمانيا، أم أننا سنواصل السير كيفما اتفق؟".
شعر بعض الأعضاء بالغضب لما رأوه من تهاون بين قياديي الحزب. سفين ريسمان، أحد كبار الشخصيات في فرع الحزب في برلين، كتب رسالة مفتوحة ينتقد فيها النتيجة "الكارثية"، قائلا إن الحزب الديمقراطي المسيحي "انحدر" إلى حزب "يصفق للمستشارة دون قيد أو شرط". يضيف هاكينيوس: "المشكلة في ميركل هي أنها مسيطرة جدا، بحيث إن ديمقراطية الحزب تتساقط أحيانا على جانبي الطريق".
يرفض أنصار ميركل تلك الانتقادات. فعلى الرغم من كل تلك المخاوف الشعبية المتعلقة بسياسة اللاجئين، حقق حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الفوز في ثلاثة من أربعة انتخابات إقليمية جرت هذا العام وبرز من خلال الانتخابات التي أجريت في أيلول (سبتمبر) بوصفه أكبر حزب في البرلمان الألماني، والحزب الوحيد القادر على تشكيل حكومة.
لكن مثل هذه التطمينات لم تلق آذانا صاغية. يقول هاكينيوس: "قال زعماء الحزب بشكل سريع جدا إنهم حققوا أهدافهم الانتخابية. وهذا ليس الموقف الذي ينبغي اتخاذه عقب الحصول على مثل هذه النتيجة في الانتخابات".
حتى أشد المنتقدين لها داخليا يرغبون في أن تبقى ميركل مستشارة لألمانيا. لكن بعض كبار الشخصيات يدعون الحزب الآن بشكل علني إلى الاستعداد الحزب لحقبة ما بعد ميركل. دانيال جونثر، رئيس وزراء الولاية الشمالية، شليسفيج - هولشتاين، طالب الشهر الماضي بأن يبدأ الحزب بالتخطيط لخلافة ميركل.
وهناك أيضا دعوات موجهة للمستشارة لتشجيع ظهور وجوه شابة ـ كثير منها في الجناح المحافظ للحزب. أحد تلك الشخصيات التي تدعو إلى التغيير هو جينس شبان، نائب وزير المالية الذي يبلغ من العمر 37 عاما، الذي هو من حاملي لواء اليمين.
يقول: "نحتاج إلى أن نُحضر جيلا جديدا. لدينا كثير من الشباب الجيد حقيقة في العقد الثاني أو الثالث من العمر ممن يمكن ترقيتهم للحصول على مناصب في المجموعة البرلمانية، أو في الحكومة، بحيث يتسنى لهم الحصول على فرصة لإظهار قدراتهم ومهاراتهم (...) وإظهارهم بشكل أكبر أمام الناس".
وهذا رأي يشاركه فيه هاجل، البالغ من العمر 29 عاما وأحد أصغر الناشطين الناشئين المحافظين في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. يقول: "نحتاج إلى منح الحزب انتفاضة فكرية. فنحن بحاجة إلى وجوه جديدة".
أصدر هاجل مذكرة في الشهر الماضي بعنوان "استيقظ يا حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، طالب فيها بعملية تجديد محافظة للحزب ودفاع أفضل عن "الهوية الثقافية لألمانيا". ويضيف: "نحن بحاجة إلى إجراء حوار جاد حول الوجهة المستقبلية - هذا ما نفتقده في الوقت الراهن، على الأقل على المستوى الوطني".
لكن من المشكوك فيه ما إذا كان من الممكن حدوث هذا النقاش الآن، خاصة إذا جددت ميركل تحالفها الكبير مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي. يقول هاجل: "نحن في خطر أن نجد أنفسنا عالقين في التيار الرئيس".
في بلدة أونترمارشتال، لا يزال بولد يتفكر في الأسباب التي أدت إلى الأداء الضعيف لحزبه في انتخابات أيلول (سبتمبر). يقول: "كان هناك هذا الإحساس بالاستياء بين الناس، ومع ذلك لم يستطع القادة أن يروا ذلك. لم يدركوا أن الناس لهم رأي مختلف".
التعليقات