جمال سند السويدي

مهما بلغت الدول من تقدم علمي ومعرفي وتقني فإن ديمومة بقائها مرهونة بمدى محافظتها على قيمها النبيلة وتمسكها بمبادئها السامية، لتواصل طريقها نحو بناء حاضرها ومستقبلها المشرق، وما العلم في جوهره إلا تجسيد وإعلاء للقيم الحضارية والأخلاق الإنسانية.. بهذه الكلمات الذهبية التي لا تصدر إلا عن قائد حكيم وعقل مستنير وفكر متقد، علّق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة -حفظه الله- على إطلاق ديوان سموه مبادرة تدعيم العملية التعليمية بمادة «التربية الأخلاقية» في المناهج والمقررات الدراسية في يوليو 2016، لتكون المبادرة الأولى من نوعها في منطقة الخليج العربي والمنطقة العربية، بل ومنطقة الشرق الأوسط كلها، وتؤكد أن دولة الإمارات العربية المتحدة دائماً ما تكون صاحبة السبق والخطوة الأولى التي تصنع من خلالها التاريخ في منطقتها عبر مبادراتها ومشروعاتها الرائدة التي ينظر إليها الجميع بإعجاب وتقدير، ويعمل على السير على هديها، من منطلق الثقة التي ترسخت على مدى سنين طويلة في قدرتها على تحويل المبادرات والطموحات التي كان ينظر إليها البعض عند إطلاقها على أنها محض خيال إلى واقع ملموس ينطق بالريادة والتفرد، ويجسد القيادة التنموية الإماراتية في المنطقة.

وصفت سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، رئيسة الاتحاد النسائي العام، الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية، رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة «أم الإمارات»، مبادرة «التربية الأخلاقية»، بحق، بأنها «حدث استثنائي في مسيرة التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة»، وهذا ليس بغريب لأن المبادرة صدرت عن قائد استثنائي تربى وتعلم في مدرسة الأخلاق والقيم والأصالة.. مدرسة زايد، ويدرك أن أي تقدم من دون ظهير قيمي وأخلاقي راسخ هو تقدم ناقص يحمل في طياته أسباب انهياره وفنائه، وأن التنمية الشاملة والمستدامة هي تلك التي تقوم على أساسين متينين: الأول، هو الأساس المادي المتمثل بالتقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي. والثاني، هو الأساس الأخلاقي المتمثل بالقيم والسلوكيات وطبيعة النظرة إلى الذات والآخر.

وإذا كانت التربية الأخلاقية مسؤولية مشتركة للكثير من المؤسسات في المجتمع، مثل الأسرة والمدرسة والمؤسسة الدينية ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، فإن الدور الأساسي والأهم فيها يقع على كاهل مؤسسات التعليم، لأنها تتعامل مع النشء والشباب في مرحلة من أخطر المراحل العمرية، فهي المرحلة التي تتشكل فيها القيم والتوجهات، ويكون من الصعب بعد ذلك تغييرها أو تهديدها أو النيل منها، ومن هنا كان استهداف صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، للمناهج التعليمية في مبادرة التربية الأخلاقية وتأكيده الدور التربوي المهم للمدرسة، ومنح الجوانب التربوية والتنشئة الوطنية أولوية كبرى لما تمثله من حصانة ومناعة ذاتية لطالب العلم.

على مدى عقود طويلة لم تكن التربية الأخلاقية محط اهتمام مناهج التعليم في العالم العربي، حيث لم تهتم هذه المناهج بزرع قيم التسامح وقبول الآخر والمبادرة والحوار في عقول النشء والشباب، فضلاً عن تدريبهم على ممارستها بشكل عملي، بل إن بعض هذه المناهج عملت، وما زالت، على تلويث هذه العقول الغضة بأفكار الغلو والتطرف والعنصرية وكراهية الآخر، ومن ثم كان من الطبيعي أن تجد قوى التشدد والعنف طريقاً سالكاً إليها أو إلى الكثير منها لتحويلها إلى أدوات للتدمير والتخريب بدلاً من أن تكون أدوات للتعمير والبناء، وكان من الطبيعي أيضاً أن تتخرج في المدارس والجامعات العربية أجيال سلبية فاقدة لروح المبادرة وإرادة المنافسة وتعاني تشوشاً في فهم ما يحيط بها، وفي إدراك حدود حقوقها وواجباتها، أو مسؤولياتها تجاه نفسها ومجتمعاتها وأوطانها، ونظرتها إلى ذاتها والعالم من حولها، وهذا ما تعمل مبادرة «التربية الأخلاقية» على معالجته والتعامل معه، لأنها لا تنظر إلى الأخلاق بمعناها المباشر أو الضيق، وإنما تتبنى رؤية شاملة حولها تقوم على خمسة عناصر هي: الأخلاقيات، والتطوير الذاتي والمجتمعي، والثقافة والتراث، والتربية المدنية، والحقوق والمسؤوليات.

لا جدال في أن النشء والشباب في دولة الإمارات العربية المتحدة، وغيرها من الدول العربية الأخرى، يتعرضون لموجات كثيفة من الأفكار والقيم والسلوكيات التي تأتيهم عبر وسائل الاتصال الحديثة القادرة على إيصال مضامينها ورسائلها إلى أي مكان في العالم مخترقة كل الحدود والحجب. ولا جدال أيضاً في أن محاولة التحكم في هذه الموجات من القيم والأفكار والسلوكيات الوافدة أو فلترتها في عصر الانفجار المعلوماتي وسطوة ثورة الاتصالات ستكون بمنزلة محاولة «دونكيشوتية» عبثية لمحاربة طواحين الهواء لا انتصار فيها. فما هو البديل؟ هل نترك شبابنا تتقاذفهم الأمواج المتلاطمة من التوجهات والثقافات والأفكار الرديء منها والإيجابي طالما أننا غير قادرين على التحكم فيها، أم نعمل على تحصينهم ومدهم بما يمكن أن يساعدهم على التعامل معها بعقل واع يميز بين الخطأ والصواب؟ للزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي مقولة تحفظها كتب التاريخ وصفحات الحكمة يقول فيها: يجب أن أفتح نوافذ بيتي لكي تهب عليه رياح كل الثقافات بشرط ألا تقتلعني من جذوري. وهذه المقولة الرائعة تجسد بوضوح الفلسفة التي تقف وراء مبادرة «التربية الأخلاقية»، ففي الوقت الذي تمثل فيه دولة الإمارات العربية المتحدة مثالاً بارزاً على الانفتاح على العالم بكل ثقافاته وحضاراته وأفكاره ونموذجاً للتفاعل والتعايش بين أكثر من مئتي جنسية تعيش على أرضها، فإنها في الوقت نفسه حريصة على تحصين أبنائها في مراحل مبكرة من عمرهم بالقيم الأخلاقية السامية المستمدة من ديننا الحنيف وعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، بما يمكّنهم من أن يكونوا عناصر فاعلة في مجتمعهم وعالمهم وحائط صد ضد أي محاولات لمسخ هويتهم أو النيل من انتمائهم إلى وطنهم وولائهم لقيادتهم أو دفعهم نحو اتجاهات مدمرة باسم الدين أو الطائفة أو العرق أو غيرها.

تتميز دولة الإمارات العربية المتحدة بالمزج الإيجابي بين قيمها وتقاليدها وعاداتها الأصيلة وانفتاحها وحداثتها، وهذا يوفر القاعدة أو الأساس لتنفيذ مبادرة التربية الأخلاقية ونجاحها في تحقيق أهدافها، وخاصة أن الاهتمام بتكريس القيم الإيجابية والأخلاق الفاضلة هو عنصر أساسي من عناصر التنمية الشاملة في الدولة، وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن مبادرة التربية الأخلاقية انطلقت بعد أقل من شهر من اعتماد سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، رئيسة الاتحاد النسائي العام، الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية، رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة، لـ«البرنامج الوطني لقيم الشباب الإماراتي» الذي قدمته وزيرة الدولة للشباب بهدف ترسيخ قيم المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لدى الأجيال الإماراتية الحالية والقادمة، متضمناً قيم التسامح والاجتهاد والتواضع والولاء والانتماء والإيجابية والعطاء والاحترام، وغيرها من القيم التي من المهم لشباب الإمارات الوعي بها وتحويلها إلى ثقافة لديهم في ممارساتهم الشخصية والعملية.

أتمنى أن تكون هذه المبادرة الرائدة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مقدمة لتوجه عام في العالم العربي كله لتعزيز الاهتمام بالأخلاق في مناهج الدراسة في المدارس والجامعات، حتى لا يكون الخواء الأخلاقي والقيمي لدى الشباب هو الثغرة التي ينفذ منها كل من يريد أن يهدد أمن الدول العربية وسلامة مجتمعاتها، لأن أمة من دون أخلاق هي بحق «أمة في خطر» مهما وصلت في مراتب التقدم العلمي والتكنولوجي، وصدق أحمد شوقي حينما قال:

وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم... فأقم عليهم مأتماً وعويلاً.