سمير عطا الله

أهان «الأجانب» الفلاح المصري. وكان ذلك أسوأ من إهانة علمها. أساءوا فهم الفقير البسيط وعلاقته بالأرض، فلم يدركوا كيفية معاملته. وكانت كرامته تحترق في داخله، ليس بسبب الفارق المادي أو الاجتماعي، فهذه حالة كونية، وإنما لشعوره بوطأة الغريب.


كانت مصر مليئة بالأجانب. وكان أكثرهم سبباً من أسباب تقدمها العلمي والصناعي والاقتصادي. وعندما فقدتهم، فقدت معهم جزءاً مهماً من حيوية القطاعات المنتجة. لكن المصري المتأثر عميقاً بالإهانة، لم يتوقف طويلاً عند حساب الربح والخسارة. غلب عليه شعور واحد، هو «الاستعمار»، فخلط كل وجود أجنبي به. وعندما شاركت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في عدوان السويس، تحوّل الشعور ضد البريطانيين والفرنسيين إلى شعور ضد الإيطاليين واليونانيين وجميع الغربيين. ودفع هؤلاء إلى ترك البلاد، ليس من قبل الدولة وإجراءات التأميم العشوائية، بل من قبل المعاملة الاجتماعية والشعور الأهلي العام.
أنا من الذين كانوا يتمنّون لمصر بقاء عناصر التقدم، واستمرار الإفادة من الخبرات الأوروبية، وفتح أبواب الجامعات الخاصة التي كان يتبرع بإقامتها الأثرياء الأوروبيون، لكن أنا لا أعرف معنى المشاعر التي عرفها الإنسان المصري، ولا أستطيع أن أعرف، مهما حاولت، معنى المشاعر التي خامرت وتخامر الإنسان الفلسطيني؛ مهجراً أو لاجئاً أو غريباً في كل ديار إلا دياره.
أكتب هذا الكلام بعد قراءة «الخروج من مصر» للأميركي آندريه أسيمان، وهو يهودي مصري الأصل، هاجر مع عائلته من الإسكندرية بعد «السويس» بقليل، وأصبح أستاذاً للأدب في جامعة نيويورك. قراءة ممتعة. وبما أنه يدرّس مؤلفات مارسيل بروست، فالواضح أنه مفتون به ويحاول تقليده. بحر من التفاصيل والحكايات، ووصف للحياة في الإسكندرية أوائل الستينات، وكيف بدأ الأجانب النزوح.
لكن أسيمان لا ينتبه إلى شيء أساسي في هذا العمل الأدبي المتفوق، وهو أنه عمل إنساني ناقص... لا وجود لمصر في السرد إلا كمصدر خوف وقلق، ولا وجود للمصري إلا كطباخ أو بواب كسول، ولا أثر ضمن عائلة المؤلف لأي شعور بمحبة مصر أو افتقادها... إنها مجرد إطار يمكن تغييره والبحث عن سواه بمجرد إنزاله عن الجدار.
ليس هذا طبعاً شأن جميع الأجانب الذين كتبوا عن مصر بعد تركهم لها. كثيرون لم تفارقهم الحسرة على زمنها. وكثيرون لم يتمكنوا من أن يصبحوا أي «شيء» آخر. الفرنسيون واليونانيون والإيطاليون ظلوا «مصريين» في بلادهم الأم.. .