سمير عطا الله
لم يبقَ أحد لم يحلم بشق قناة السويس. أو بالأحرى قناة تربط البحرين، الأحمر بالمتوسط، من الفراعنة إلى نابليون. ومن الإسكندر إلى عمرو بن العاص، ومن داريوس إلى محمد علي. في الحملة المصرية من أجل محاربة الإنجليز وتوسيع إمبراطوريته، لم يحمل معه فقط علماء الآثار والمؤرخين، بل أيضاً كبار المهندسين. لكن نابليون لم يبقَ طويلاً في مصر. وبعد سنوات قدّر للدبلوماسي الفرنسي فردينان دوليسبس أن يتولى الإشراف على أحد أعظم المشاريع الجغرافية في التاريخ.
أسس دوليسبس شركة لبيع أسهم المشروع الخيالي، فاندفع الناس لشرائها. وقال له أحد أصدقائه: «سجِّل لي سهمين في هذه السكة الحديدية التي تؤدي إلى جزيرة السويد». فأجابه دوليسبس: «هذه ليست جزيرة، بل قناة، وليست سكة حديد بل طريق مائية، وليست السويد، بل السويس». فقال الرجل: «كل ما تقول غير مهم. المهم أنها ضد الإنجليز». كان ذلك عام 1858.
انتهت المتاعب؟ بل بدأت المتاعب. عقبات يخترعها الإنجليز. وعقبات يضعها «الباب العالي» في إسطنبول. وأيضاً الفلاحون المصريون يتظاهرون بالآلاف عند موقع الحفر الأول، من أجل منع العمل. وكان دوليسبس، بناء على نصيحة الخديوي، قد خصص كميات من الأسهم للدول الكبرى، شراء لموافقتها. غير أن الحصة الكبرى ظلت للشركات الفرنسية.
وقع مصاب أهم للدبلوماسي الفرنسي. فقد الإنسان الذي كان أكبر عون له. ولم يكن هذا إلا حماته، المدام دو لامال. المرأة التي عنيت بتربية ولديه فيما كان يجوب العالم من أجل مشروعه. والمرأة التي كانت تحث كبار المسؤولين والنافذين على الثقة بأهمية المشروع. وكان كلما شعر باليأس، أو الإحباط، تقدمت منه جدة ولديه، تحضه على استكمال المستحيل: شق الأرض وربط البحرين.
لم يقرأ رسامو الكاريكاتير المصري، ولا الكوميديون، هذه الصفحة من التاريخ، فطفقوا يصورون الحماة على أنها الجزء الظالم في الزواج. وحمّلوها مسؤولية كل الأخطاء. ورسموها دائماً ساخطة تصرخ في غضب، وسمينة ترفع قبضتها في الهواء. وظلت النكات تؤلّف عليها إلى أن باخت ولم يعد لها سمّاع وضاحكون.
... في أي حال، أنشأ دوليسبس الماهر صحيفة خاصة يطلع فيها المساهمين على خطوات المشروع سماها «صحيفة وحدة البحرين». وترك للتاريخ مذكرات تروي شيئاً من أهرامات الماء. وكما ارتفع المصريون من قبل بالحجر على نحو غامض حتى اليوم، هكذا شقوا القناة التي غيرت طرق الملاحة في العالم. وأصبح لديهم نيل آخر، وإن يكن ليس «أسمر حليوة» كما دلَّل شوقي النيل الأسمر، الحليوة..
التعليقات