عبدالحق عزوزي
كلما زرت دول الاتحاد الأوروبي ينتابني شعوران. شعور بعظمة أولئك الذين بنوا الاتحاد الأوروبي ومدى صمود هذا الاتحاد على رغم الأمواج العاتية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المتوالية التي تمر منها دوله مجتمعة أو تمر منها بعض منها فقط. وشعور ثانٍ باليأس والقنوط لما وصل إليه واقعنا العربي المزري من تفرق وتشرذم وغياب المؤسسات الوحدوية والأفكار التطبيقية.
والاتحاد الأوروبي لم يكن في البداية إلا مشروعاً فكرياً وحدوياً ولد في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيين من تلك الدول. وللتذكير فعندما تكون الاتحاد الأوروبي في بداياته لم تكن كل الدول ديمقراطية، ولم تكن كلها متطورة اقتصادياً، ومع ذلك، استطاع رويدا رويدا من خلال حكمة دوله المحورية وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، ومن خلال المبادئ الوحدوية السامية التي قام عليها ودعمتها الشعوب الأوروبية، إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وأتذكر لما كنت أتابع دراساتي العليا في فرنسا كيف أن الجامعات الأوروبية ظلت تكوّن أجيالاً من البشر «الوحدويين» الذين يؤمنون بضرورة الوحدة الأوروبية، وكيف أن هذه الجامعات تكونهم قانونياً وسياسياً واقتصادياً لفهم الاتحاد الأوروبي، وكيف كانت تعطيهم مساحات فكرية للاجتهاد وإبداء الآراء.
ولا غرو أن الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون يعد من الجيل الثاني من «الوحدويين» الأوروبيين، وهو خريج المدرسة الإدارية والسياسية الفرنسية الجديدة ويحمل لواء التغيير الأوروبي الجذري، ويملك اليوم مؤسسات وهيبة الدولة للقيام بذلك. وهذا ما لمسناه في زيارته الأخيرة إلى اليونان.
وبالطبع نتذكر المشهد اليوناني منذ ثماني سنوات خلت حيث أزمة ديونها الخانقة التي فاقت 323 مليار يورو (جلها قروض من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) ونتذكر أيضاً كيف بدأت هذه الأزمة وتضخمت (حيث جاءت نتيجة لجوء اليونان إلى الاقتراض من دون حساب في بدايات الألفية الثانية، بعد انضمامها للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل التسهيلات الائتمانية أيسر بكثير، وشجع ذلك اليونان والدول الصغيرة بمنطقة اليورو على الاقتراض، حتى تراكمت عليها الديون نتيجة كثرة القروض وفوائدها). كما نستحضر أيضاً تأثيرات تلك الأزمة على الحياة اليومية لليونانيين، وطريقة اختيار منتخبيهم.
وها هو رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس يقول خلال زيارة الرئيس ماكرون إن بلاده تحولت من وضعية الخروج من منطقة اليورو إلى استقطاب الاستثمارات وهي الأعلى على مدى السنوات العشر الأخيرة... ويضيف: «قال لي رجل أعمال فرنسي إننا تمكنا من تحويل غريكست (خروج اليونان من منطقة اليورو) إلى غرينفست (الاستثمار في اليونان) ليس بالنسبة للفرنسيين فقط، بل لباقي دول أوروبا أيضاً».
صحيح أن غالبية اليونانيين لم تلمس بعد مؤشرات النمو الاقتصادي. ولكن بعد سنتين من وضع حكومة تسيبراس البلاد على شفير الخروج من منطقة اليورو، وثماني سنوات من انزلاق اليونان في أزمة اقتصادية خانقة، بدأت أرقام التوظيف في التحسن. فالحكومة الحالية خلقت حوالى 500 ألف وظيفة منذ تسلمها الحكم في 2015، وهو رقم قياسي للسنوات الـ16 الأخيرة. وحصلت اليونان على خطتي إنقاذ بمليارات اليوروهات منذ 2010 إلا أنها غالباً ما تشتكي من مطالب صندوق النقد الدولي بإجراء تقشف وإصلاح قانون العمل.
هذا من جانب، ولكن المسألة الأهم هي الوقوف الدائم لإحدى الدولتين الحارستين للاتحاد الأوروبي وأعني بذلك فرنسا، إلى جانب اليونان، ولأول مرة في نظري يقوم رئيس دولة بدعوة علنية إلى المؤسسات المالية لتفهم أوضاع دول مثل اليونان، حيث دعا ماكرون من اليونان صندوق النقد الدولي إلى الامتناع في المحادثات المقبلة عن المطالبة بإجراء تقشف يفوق ما تم الاتفاق عليه، ودعا إلى التحلي بحسن النية وعدم زيادة المطالب.
وماكرون يفهم جلياً أن خسارة الاتحاد الأوروبي ستكون شكلاً من أشكال الانتحار السياسي والتاريخي، واتحاد أوروبي قوي فقط يمكنه حماية كل مواطنيه من التهديدات العابرة للحدود مثل التغير المناخي والإرهاب والأزمات المالية والاقتصادية في عالم لا يرحم، وفي عالم لا يمكن لدوله البقاء إلا في ظل التكتلات الوحدوية الإقليمية.
التعليقات