عبدالحق عزوزي

كعادتهم في الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية، يطلب منا طلبة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بعض النصائح والتشخيصات التي تمكنهم من فهم ما يجري في العالم، وما يسمح لهم باقتناص بعض الأفكار التي تمكنهم من اختيار مواضيع لإنجاز الأبحاث الجامعية، وسأذكر هنا بعضاً من تلك التي تحضرني في حق السائلين والمتعطشين للعلم:

-التحول سنة من سنن الكون الدائمة، في مجال النظم السياسية وبناء الدول، وهو مسألة في غاية الخطورة والحساسية، لأن تطبيق الأدوات السياسية خارج منظومة معرفية سياسية متكاملة، باسم الشرعية والثقة التي تجمع الحاكم بالمحكوم، سيحكم عليها بالنقص بل بالخراب والانهيار والزوال، وليبيا أفضل مثال على ذلك، فكلنا نتذكر اليوم الذي قتل فيه معمر القذافي، وما تلا ذلك من تحليلات مبشرة حتى في أكبر المراجع والمراكز البحثية الدولية، إذ صفقت لما وقع ولما سيتولد عن ذلك التغيير من أزهار للحرية المفقودة منذ عقود وللديمقراطية المحجوزة منذ آماد، لكن هيهات هيهات في مجتمع مزقته أفكار سلطوية بائدة، وشرخه غياب نخب محورية، أن يتولد من رحم المخاض الشعبي مجتمع سياسي موحد قادر على قيادة سفينة التسيير والتمثيل الشعبي.

- نوعية النظام الدولي الجديد وطريقة تسييره، وكيفية صياغة استراتيجية المصالح الوطنية والخارجية للدول الكبرى، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية، وتغيرها الدائم بتغير الرؤساء والحكومات المتتالية، والأخطاء التي اقترفها المحافظون الجدد في منطقة الشرق الأوسط (خاصة في العراق)، وكيف حاولوا جبر الأخطاء الجسيمة (كإشعال وقود الطائفية) ومعالجته بأدوية منتهية الصلاحية، بل ومسمومة، الأمر الذي مكّن من توسيع دائرة الإرهاب متعدد الانتماءات.. فلسنا في حرب كلاسيكية نستعين في تحليلها بنظريات كلازفيتز، حيث يتصارع المتبارزون في حلبة صراع ظاهرة للعيان، بل يكفي اليوم أن تأتي الأوامر عبر الإنترنت من منطقة الشام إلى قلب باريس أو بروكسيل، لفردين أو ثلاثة ملوثة عقولهم وقلوبهم، ليستعملوا أسلحة ومواد متفجرة سهلة التركيب والاقتناء ليموت مئات الأبرياء!

-الأحداث المتتالية التي وقعت منذ سنة 2010 في وطننا العربي، منذ هروب بن علي من عقر داره، وتلك التي تقع في أقوى الدول الغربية في المجالات الأمنية والاقتصادية والاستخباراتية، تجعل كل خبير متبصر عاجزاً عن التكهن بما سيقع في الفترات التالية، لكن تلك الأحداث تومئ إلى أن الدول المحصنة أو القادرة على مواجهة الزلازل السياسية والأمنية والمجتمعية والاقتصادية، هي التي تنجح في تسيير الشأن العام، وتستطيع خلق الثقة بين أطراف المجال السياسي العام وبين الفاعلين في المجال الاقتصادي والمالي والبنكي..

- وإذا كان هناك درس محدد للأحداث المتتالية التي عرفتها بعض الدول خلال السنوات الأخيرة، فهو أن الارتجالية في تسيير شؤون البلدان والعباد طامة كبرى وداهية عظمى، وأن قواعد المرحلة الحالية تستدعي وعياً متكاملًا وخبراء متبصرين وقادة حكماء في انصهار تام مع مجتمعاتهم في نكران للذات وسعي لخلق الوحدة والإجماع، بقواعد الشغف والمسؤولية وبعد النظر.

-لا تتطور الشعوب إلا بالاستثمار في الإنسان، والاستثمار في الإنسان يعني إيجاد أرضيات صلبة لتعليم وتغذية عقول الأجيال بالعلم الصحيح والقواعد المتينة التي تبني وتطور، وبإعداد مدارس القرن الثاني والعشرين وجامعات القرن الثالث والعشرين، والابتعاد عن الأدوات والمناهج الخاطئة التي استعملناها منذ ستة عقود في معظم الدول العربية ولم تؤت أكلها ولن تؤتيه طالما هناك المسببات نفسها والعقليات نفسها، فالمطلوب من المرحلة هو نوع من الزلزال الناعم، والاستغناء عن البدلة المرقعة القديمة وخياطة بدلة جديدة تعفي الجميع من كل مساوئ الأولى، وهذا يجب أن يطال الاقتصاد والتربية والتعليم والمؤسسات والوظائف والنفقات العمومية والعقليات.

كنت الأسبوع الماضي في لاهاي بهولندا، ورأيت أن جل الهولنديين يذهبون إلى العمل بالدراجات ابتداء من الوزراء ووصولا إلى العامل أو الإنسان العادي.. لم ألاحظ عربياً واحداً يسير على خطاهم، وأظن أن القراء الأفاضل يعرفون السبب.. إنه العقليات التي يتحتم تغييرها!