ربّما كانت مقتضيات الحوار مع صندوق النقد الدولي هي التي دفعت الحكومة المستقيلة إلى الاستعجال في إقرار "استراتيجية النهوض بالقطاع المالي"، جنبا إلى جنب مع تصوّرها "بشأن السياسات الاقتصادية والمالية". فأقرّت من خلال وثيقتين مترابطتين خطّتها للتعافي المالي والاقتصادي، تاركة مهمّة المتابعة للحكومة والحكومات المقبلة، علّها تتمكّن من وضع هذه الالتزامات موضع التطبيق.

العبارات الغامضة والأخطاء اللغوية والصياغة الفاشلة لفقرات الخطّة تكشف أن النصّ الذي أقرّه مجلس الوزراء، دون قراءته، هو ترجمة حرفية، غير موفّقة، عن نصّ آخر باللغة الإنكليزية وضعه موظفو صندوق النقد ودفعوه إلى الحكومة مثل "شروط المسكوب"، فإمّا أن تقبل به كما هو أو ينسحب الصندوق من مفاوضاته مع لبنان.

وإذا كان الجانب الإيجابي للاستعجال هو تسهيل استمرار المفاوضات مع الصندوق، فإن الوجه السلبي للعجلة يطال على الأخصّ الرئيس نجيب ميقاتي شخصيا. فرئيس الحكومة الذي يعوّل عليه كسياسي معتدل واقتصادي مطّلع وناجح، لم يكن من مصلحته أن يذيّل بتوقيعه إحدى أسوأ الوثائق في تاريخ لبنان الاقتصادي. إن خطّة الحكومة تسحق بشكل شبه كّلي حقوق المودعين والمساهمين في المصارف اللبنانية، فإذا قيّض لها، لا سمح الله، أن ترى النور يوما ما تصبح ودائع الناس بالعملات الأجنبية، مثل أسهم المستثمرين في المصارف، مجرد سراب.

خطّة التعافي التي اعتمدتها حكومة الرئيس حسّان دياب ادّعت أنها ستحمي الودائع التي لا تزيد عن نصف مليون دولار، رغم الشكوك بقدرة الحكومة وقتذاك على تحقيق هذا الوعد. أما خطّة حكومة ميقاتي الأولى التي تسرّبت إلى الإعلام منذ بضعة أسابيع، فقد تواضعت ووعدت بحماية الودائع بالعملات حتى مئة ألف دولار. ثم جاءت "استراتيجية النهوض بالقطاع المالي" التي أقرّتها الحكومة رسميا في اليوم الذي سبق تحوّلها إلى حكومة تصريف أعمال لتعتمد سياسة "الغموض غير البنّاء"، فلا تشير إلى أي سقف للودائع التي ستحظى بالحماية، على سبيل طمأنة صغار المودعين. وهي استثنت ودائع المصارف غير القابلة للحياة من أية ضمانة وجعلت حقوق أصحابها في مهبّ الريح.

أما كبار المودعين فقد بشّرتهم الاستراتيجية المزعومة بمجزرة حقيقية لا ينجو منها أحد، إذ أكّدت أن ودائعهم ستتحوّل إلى أسهم في مصارفهم أو إلى مساهمات مبهمة، أو تدفع لهم خلال فترة زمنية طويلة بالليرة اللبنانية. وبذلك يكون "الحلّ النهائي" للودائع في المصارف اللبنانية شبيها "بالحلّ النهائي" للمسألة اليهودية في العهد النازي، أي المحرقة.

ولم توفّر المحرقة المساهمين في المصارف اللبنانية. وقد تملّك العدد الأكبر من هؤلاء أسهمهم في المصارف كوسيلة للاستثمار أو الادّخار ولتنويع توظيفاتهم، وليسوا هم بالضرورة أثرياء. وقد اكتتبوا برساميل المصارف بحسن نيّة لأنهم صدّقوا الأسطورة المتداولة بأن النظام القانوني والاقتصادي اللبناني يحمي الملكية الخاصّة وأموال المودعين. تصفير رساميل المصارف على نحو ما أقرّته الخطّة وتصفية المصارف بطريقة تعسّفية لا يلحق الأذى بالمساهمين وحدهم بل يضرب النظام المصرفي اللبناني ويحول دون خلق نظام مصرفي جديد.

أقرّت الحكومة خطّة التعافي في وثيقتين، لكن هناك وثيقة ثالثة غائبة وهي أهمّ من الوثيقتين.

إنها الوثيقة التي تحدّد المسؤوليات بشجاعة وموضوعية، فتخبر اللبنانيين من قاد البلاد إلى هذه الكارثة. من سار بالبلد إلى الإفلاس، من فجّر براكين التضخّم والفقر والبطالة، من سرق مدّخرات المقيمين وغير المقيمين وأخذ منهم جنى العمر دون أن يرتكبوا أي ذنب. من تسبّب بصورة غير مباشرة في القضاء على مزايا الاقتصاد اللبناني وأنظمة الصحّة والتعليم والخدمات التي كان يتفاخر بها لبنان في كل المنطقة. من قبع الاقتصاد اللبناني من جذوره ورماه في قاع البحر. من قضى على مستقبل الأجيال القادمة.

نحن نعرفهم واحدا واحدا، ونعرف أسماءهم وعناوينهم، لكن الأهمّ أن تكون هناك وثيقة رسمية مبنية على دراسة معمّقة وتشخيص موضوعي تحدّد المسؤولية والمسؤولين.

إننا نطالب بقرار ظني دقيق وعادل، يخبرنا من قتل لبنان.