أكّد غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مراسم تشييع ميخائيل غورباتشوف، آخر رؤساء الاتّحاد السوفياتي، وجود انقسام في الرأي بين من يعتبرون غورباتشوف قائدا تاريخيا وإصلاحيا أنهى مرحلة الحرب الباردة، وبين من ينظرون إليه كمرتدّ مزّق الاتّحاد السوفياتي وأضعف دور روسيا في ساحة العلاقات الدولية.

لم يتردّد غورباتشوف منذ اليوم الأوّل لتولّيه زعامة الحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1985 في توجيه انتقادات جذرية ضدّ النظام الاقتصادي الشيوعي الذي يقوم على السيطرة الكاملة للدولة على الاقتصاد. فقد دعا، بخلاف الفلسفة السائدة في بلاده منذ عهد لينبن، إلى إصلاح اقتصاد الدولة والانفتاح وإعادة الهيكلة والديمقراطية، لتخليص البلاد من بطء معدّلات النموّ والركود. واعتبر الشيوعيون التقليديون مشروع غورباتشوف مسؤولا عن انهيار الاتّحاد السوفياتي وتراجع النفوذ الروسي في العالم، وطالبوا بمحاكمته.

والواقع أن الاقتصاد السوفياتي كان يعاني من أزمة مستمرّة منذ ستينات القرن العشرين. ومن أهمّ الأعباء التي كانت تثقل كاهله اضطراره إلى تطبيق الشعارات الشيوعية، مثل العمالة – الوهمية – الكاملة، إضافة إلى مقتضيات التنافس العسكري مع الغرب، حيث بلغت الموازنة العسكرية 15 بالمئة من الناتج الوطني، أي ضعف الموازنة العسكرية الأميركية في نفس الوقت. الزراعة، وهي من ركائز الاقتصاد السوفياتي، كانت حصّتها من حجم الاقتصاد تسجّل تراجعا مضطردا بين سنتي 1970 و1985، أما قطاع الخدمات فقد كان يشكو من ضعف تاريخي بسبب التركيز على تطوير الصناعة، استجابة للمتطلبات الأيديولوجية.

تجسّدت الأزمة بتراجع حجم الاقتصاد، حيث أن الناتج المحلّي بدون الخدمات تراجع من 7 بالمئة في الستينات إلى 3.5 بالمئة في ثمانينات القرن العشرين. ومع أن الرؤساء بريجينيف وأندروبوف وتشرنينكو الذين سبقوا غورباتشوف إلى السلطة تحسّسوا عمق الأزمة الاقتصادية، فقد تجنّبوا ولوج طريق الانفتاح وإدخال الأساليب الرأسمالية إلى الاقتصاد، خوفا من انهيار الوحدة السوفياتية وسقوط سلطة الحزب الشيوعي.

لكن غورباتشوف كان أكثر إقداما من أسلافه وأكثر استعدادا للمغامرة، ربّما بفعل استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية. في أيار 1985، بعد شهرين من تولّيه السلطة، ألقى خطابا مزلزلا في سان بطرسبورغ تحدّث فيه بوضوح عن فشل النظام الاقتصادي، وأتبعه بخطاب آخر في العام التالي أمام مؤتمر الحزب الشيوعي ركّز فيه على حاجة اقتصاد بلاده إلى إعادة الهيكلة السياسية والاقتصادية في جوّ من الشفافية والانفتاح. ثم انتقل من القول إلى الفعل فطبّق إصلاحات اقتصادية دون أن يخرج كليّا عن قواعد الاقتصاد الشيوعي.

لكن تجربة غورباتشوف الإصلاحية لم يكتب لها النجاح، فقد فشلت بفعل التطوّرات الصاخبة التي شهدتها تلك المرحلة داخل البلاد وخارجها، لاسيما الاضطرابات القومية التي انتهت بتفكّك الاتّحاد السوفياتي. إلا أن تجربته، مهما اختلفت حولها الآراء، يعود لها الفضل في إخراج اقتصاد بلاده من قيود النظام الشيوعي وتحويله لاحقا إلى اقتصاد حديث منسجم مع العصر.

لا تصحّ المقارنة بين الاتّحاد السوفياتي ولبنان، بسبب اختلاف الأوزان والأحجام والمقاييس والمعايير، لكن وفاة ميخائيل غورباتشوف بالتزامن مع الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان تبرز مفارقة قد يكون من المفيد إلقاء الضوء عليها. غورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفياتي، غامر بسمعته وزعامته ومركزه في تاريخ بلاده لكي يفتح الطريق أمام إسقاط النظام الاقتصادي الشيوعي وفتح الطريق أمام قيام نظام ليبرالي في ما بعد، لاعتقاده أن هذا النظام يحرّر بلاده من التحجّر والانغلاق والتراجع والركود.

في هذا الوقت كان لبنان يملك نظاما ليبراليا حقّق نجاحا ملحوظا في المنطقة، رغم افتقاره إلى التوازن بين القطاعات الاقتصادية والعدالة بين الطبقات. وبعكس ما سعى إليه غورباتشوف، دمرت المنظومة الحاكمة في لبنان نظام الاقتصاد الحرّ دون أن تملك البديل، ودفعت المجتمع إلى حافة الفقر والإفلاس.

تضافرت في سبيل ذلك سياسة مالية مدمّرة استتبعت سياسة نقدية ومصرفية تخلّت عن وظائفها الأصلية الصحيحة لصالح المنظومة الحاكمة وفسادها وسلوكها الأهوج. ويترافق ذلك مع شعارات شعبوية تدعو إلى دكّ ركائز النظام الاقتصادي، لاسيما المصرفي، دون أن تقترح البديل المقبول.