لا أعتقد أن هناك خلافاً في أن العالم يمر بتغيرات كثيرة، يتطلب معها المزيد من الأدوات التي تتناسب مع تلك المتغيرات التي أصبحت واقعاً فعلياً يشهده العالم اليوم، وسيزيد تطوراً في السنوات القادمة، وبقدر ذلك التطور سيكون البون بين الواقع والأدوات أمراً غير يسير، ومن هنا لابد من النظر في الحاجة إلى تلك الأدوات بشيء من التبصر والبحث عن حلول تتناسب مع الواقع الجديد الذي يعيشه العالم المعاصر، ويمكن حصر الأدوات الأهم التي يجب النظر إليها، والبحث في إمكانية تغييرها، أو إدخال تعديلات عليها تتمثل في التعاملات المالية والنقدية، والعلاقات الدولية، والفلسفة الإنسانية المشتركة بين البشر، حفاظاً على هذا الكوكب الذي وجد الإنسان فيه لعمارته، وليس لفنائه، وسنتحدث في هذا المقال عن التعاملات المالية والنقود.

كلنا يعرف أن الإنسان القديم لم يكن في حاجة إلى التجارة، وأيضاً لم يكن في حاجة إلى استخدام النقد، لأن التجارة لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فكل مجتمع صغير يكتفي بما لديه من منتجات، ويقوم الأفراد داخل المجتمع بالمقايضة بين السلع المتوفرة لديهم والمنتجة بأيديهم، وفي فترة من الزمن أصبح التنقل متاحاً، وهذا يعني أيضاً تنقل البضائع وليس الأفراد فقط، ولهذا فقد رأى الإنسان أن أنسب الأدوات والمواد الممكن استخدامها في تخزين القيمة هو الذهب، نظراً لندرته وسهولة تشكيله وليونته ومقاومته الصدأ، فأصبح هو مخزن القيمة للسلع والتبادلات التجارية التي تقع بين الأفراد والمجتمعات، وفيما بعد توسعت التجارة بين الدول في جميع أنحاء العالم واتسعت رقعة التبادل التجاري، وأصبح نقل الذهب من مكان إلى آخر كقيمة للبضائع مكلفاً، وتشوبه بعض المخاطر أيضاً، ولهذا فقد ابتكر بعض الأشخاص أن يكون هناك مندوبٌ في مكان يعطي القيمة في نفس البلد، لنفرض مثلاً أن هناك بضاعة سوف ترسل من إيطاليا إلى إسبانيا فإن صاحب البضاعة سوف يستلم النقود في داخل إيطاليا وليس بالضرورة أن تأتي النقود من إسبانيا، ويكون هناك أيضاً في إسبانيا مندوب آخر مثل هذا المندوب ثم يقومان بتصفية الحسابات بينهم، وهذا هو بداية تشكيل البنوك، ولقد كان لعائلة رشفيلد دور كبير في بروز هذه الأداة، والتي كانت نواة لظهور البنوك، واعتاد الناس على ذلك، وبعد الحرب العالمية الأولى، وتشكيل العالم الجديد، رأت القوى العظمى في ذلك الوقت أن يكون هناك مخازن ضخمة للذهب في نيويورك بالولايات المتحدة، على شكل غرف كل غرفة تخص دولة، ويتم نقل الذهب من جهة إلى أخرى داخل المخزن، ثم تم الاكتفاء بالتسجيل دون تحريك كتلتها، وأصبح لكل دولة حق إصدار عملتها المعدنية، وفيما بعد الورقية بناءً على كمية الذهب الخاص بها، ثم تطور الحال وتفاجأ العالم بصدمة نيكسون الذي ألغى فيها الذهب كغطاء، وأعلن أن الدولار هو مخزن القيمة نظراً لقوة أمريكا العالمية اقتصادياً وعسكرياً، وبقي العالم في سكرته بعد الصدمة، حتى بدأت الحال في التغير، وظهرت قوى اقتصادية وعسكرية جديدة، فأخذت في الإفاقة من سكرة الصدمة، وكان العالم جميعة راغباً في تلك الفاقة، ما عدا المستفيد من البقاء على ذات الحال.

‏غيرت التقنية وجه العالم فأصبح أكثر اتصالاً وتواصلاً نظراً لتوفر المواصلات والاتصالات وسرعتها، وكفاءتها، وتقنيتها، ولهذا فقد برزت أفكار جديدة فيما يخص التعامل المالي، و قد ظهرت العملات المشفرة البيتكوين كإحدى الأدوات، وهي في الواقع فرضت نفسها، وأصبح لها سوقٌ كبيرٌ وقيمة بلغت في يوم من الأيام ثمانية تريليونات دولار، لكن عليها الكثير من المآخذ، فهي غير آمنة، وغير مسيطر عليها من قبل البنوك المركزية في الدول، وقد تكون أداة لتهريب الأموال المشبوهة، كما أنها تستهلك الكثير من الطاقة، ولهذا فهي ربما لا تكون الأداة الفعالة والعملية البديلة للتعامل مع هذا العصر، فربما تكون جزءاً يسيراً من الأدوات التي ربما تكون متاحة في القريب العاجل، ولكن لا أحد يعلم ما هي وكيف هي ومن سوف يبرزها، لكنها قادمة لا محالة.

المملكة العربية السعودية، والصين، والهند، وغيرها من الدول مهيأة علمياً ومالياً، أو ربما منظومات معينة مثل مجموعة شنغهاي، أو بركس، أو آسيان، لطرح أفكار تؤدي إلى خطوات عملية، ربما يمكن تطبيقها مع تطوير مستمر عبر الزمن حتى يتم نضجها، والاستفادة منها في التبادل التجاري والمعاملات المالية، مع ما هو قائم الآن، أي أنها لن تكون استبدالاً لشيء قائم، وإنما طرح أداة جديدة يمكن استخدامها، لتكون مخزناً للقيمة، وأداة لمدفوعات التبادل التجاري، وتقييم الملاءة المالية للأفراد والدول.

لا شك أن ذلك ليس أمراً سهلاً، لأنه محفوف بالدوافع السياسية والاقتصادية والأمنية التي قد يكون بها تعارض في المصالح بين بعض الدول، ولكن ذلك لن يكون حائلاً دون الوصول إلى مثل هذه الأداة لحاجة السوق إليها ولتغير العالم من الناحية الفنية، وكما حدث في ما مضى تغيرت الأدوات طبقاً لتغير الظروف وحاجة السوق، فإننا الآن في حاجة إلى أداة تتعامل مع الواقع، وليس إبقاء ما كان قائماً وصالحاً في ذلك الزمان، والذي قد لا يكون صالحاً لزماننا الحالي.