بعد أن وَقّعنا على الاتفاقيات الطويلة المكتوبة بخط صغير والتي تطل عبر هواتفنا كلما تنقلنا بين تطبيقاته، دون أن نقرأها أو نتمعن فيما خلف سطورها، وبعدما اكتشفنا لاحقاً أننا شرّعنا النوافذ العالمية على مصراعيها لتقوم بدورها الذكي في انتهاك خصوصيتنا، وبعد أن غضبنا ثم اقتنعنا بمبرراتهم التي حوّلت الموضوع إلى خدمات إعلانية تُفيدنا، وبعد مناقشات الكونغرس والاتحاد الأوروبي، وبعد الغرامات الباهظة التي دفعتها الشركات المالكة للتطبيقات بقيت هي المالكة لخصوصيتنا، وبقينا نوقّع دون أن نقرأ.. فالعصر عصر السرعة، وسِباق التطبيقات لا يُناقش، إما أن توقّع لتلحق بالقطار المُسرع نحو الغد وإما أن تبقى وحيداً في محطة الأمس.
لكننا اليوم أمام انتهاك أكبر.. وجوهنا الموجودة على الإنترنت هل نملك حق ملكيتها؟
أن نمتلك حقوق ملكية سيارة أو آلة هذا مكفول قانوناً، لكن أن نمتلك حقوق ملكية وجوهنا، هذا موضوع متروك لزمن فضاء الفوضى القادم.. حتى الخصوصية التي تقبّلنا التنازل عنها لن تبقى محصورة في استغلالها وبيعها لشركات الإعلان. ستطور نشاطها لتسمع ما نقول وما نفكر وأكثر، لتشاهدنا حتى لو كانت الأجهزة مقفلة. شركات الإنتاج الكبرى هي المُمَوِّل الرئيسي في أودية التكنولوجيا، ولعل المظاهرات التي شهدتها هوليوود هذا الصيف حيث نفذ الممثلون وكتّاب السيناريوهات إضراباً واسعاً لوقف تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى استعمال أسلوب كاتب معين ووضعه في تطبيقات الذكاء الاصطناعي لنكون في ثوانٍ أمام سيناريوهات وروايات بنفس أسلوب الكاتب وخياله، تماماً كما شهدنا وسمعنا صوت أم كلثوم على أغنية (بوس الواوا).. رغم هذا التلاعب وانتهاك حقوق الملكية الفكرية لا توجد قوانين تردع.
كان لتلك التظاهرات الأثر الكبير في تعاطف الإعلام العالمي مع هذه القضية، لكن القوانين تتفرج ولا تتحرك. السؤال الذي يطرح نفسه إن كانت (الحاجة أم الاختراع) فهل العالم يعاني نقصاً في الكُتاب لتُصرف تلك الأموال الطائلة على تطوير هذه التقنية؟ ولو كان العالم يحتاج إلى عقول مبدعة تُثري عالم الكتابة فلماذا لا تصرف الأموال على اكتشاف وتطوير مواهب بشرية بدل انتهاك أسلوب كاتب بسرقة إبداعه؟
الحقيقة أننا نعيش زمن المُمَوِّل.. المستفيد هو المُمَوِّل، أي شركات الإنتاج الضخمة في هوليوود التي تبحث عن الأرباح، وهي تعلم أن أصل النجاح في أي عمل إعلامي هو الكاتب. من المؤسف والمرعب أيضاً استغلال الوجوه، وجوه ممثلين ووجوه أناس عاديين جداً، وهذا ما دفع الفنانين إلى المشاركة في التظاهرات تضامناً مع الكتّاب لوقف تطوير هذه التقنيات، نحن اليوم أمام حقيقة تقول: قريباً وجوهنا.. لن تصبح مُلكنا.
كان للحلقة الأولى من الموسم السادس في سلسلة (Black Mirror) التي تعرضها (نتفلكس) وهي طبعاً من الخيال العلمي المبني على معطيات حقيقية تحمل إمكانية حدوثها، تلك الحلقة التي جاءت بعنوان عادي (Joan is Awful) أي (جوان فظيعة) وتتناول قضية مهمة... انتهاك حقوق ملكية وجوهنا.
هذا الغد الذي لم يعد بعيداً، إذ بدأ الحديث عنه منذ بدأت تقنية التعرف إلى الوجوه. التقنية التي رحب بها الأمن وكانت تستعمل في بدايتها بهدف رصد الملاحَقين. لكنها كأي تقنية تبدأ بنية حسنة وسرعان ما تجد طريقها إلى من يستغلها ليكسب أرباحاً مادية بغض النظر عن أي آثار اجتماعية أو إنسانية تتركها خلفها. هو زمن المُمَوِّل، وكما ذكرنا سابقاً هي شركات الإنتاج العملاقة التي تحولت إلى حيتان في السوق الإعلامي تموّل التكنولوجيا لتسير كما يشاء سهم صعودها في أسواق المال.
كانت الحبكة الدرامية التي كتبها المؤلف (تشارلي بروكر) لحلقة (Black Mirror) مؤثرة حيث أخذ فكرته من تصريح (دنكان كرابتري) كبير المفاوضين في اتحاد نقابات الممثلين (SAD-AFTRA) حيث قال: إن استديوهات هوليوود طلبت التقاط صور رقمية مفصّلة لوجوه الكومبارس مقابل أجر يوم واحد، ومن ثم امتلاك حق استخدامها إلى الأبد في أي مشروع دون العودة إلى أصحابها. كما أشار مؤسس الرابطة الوطنية للممثلين في مجال الدبلجة (فريد لاندر) إلى استغلال أصوات العاملين في هذا المجال دون علمهم. من هنا جاءت الحلقة لتروي حكاية وجوه الناس التي يمكن تحطيم حياتها بانتهاك صورها وخصوصياتها وعرضها للعلن.. ونسأل بعد كل ما سبق: هل سنملك حقاً ما فينا؟ أم ستبقى الحكاية أن نتحدث عن خطر.. ويبقى القانون يحمي الآلة ولا يحمي البشر؟
* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية
التعليقات