استخدم وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، الأحد الماضي، لهجة تصعيدية ضدّ إيران، أثارت أسئلة بشأن معانيها وأهدافها. ولئن اتهمت واشنطن إيران بأنّها وراء جماعة الحوثي في استهداف أمن باب المندب والبحر الأحمر، ووجّهت لها اتهامات باستهداف ناقلة كيماويات في المحيط الهندي السبت الماضي، غير أنّ اللهجة الأميركية لم تذهب إلى التهديد والوعيد الذي صدر عن كاميرون من لندن.

تاريخياً تُعتبر سياسة بريطانيا الخارجية دائماً جزءاً من سياق السياسة الخارجية الأميركية، وحتى أنّ الآراء اللاذعة تعتبرها ذيلاً لها. ولئن يصدح كاميرون بكلام مهدِّد، فذلك لا بدّ أنّه منسّق مع الحليف الأميركي وتفهمه إيران جيداً. والأرجح أنّ رسائل لندن هي وجه آخر لمداولات تجري في واشنطن بشأن قدرات إيران في تهديد الملاحة البحرية في المنطقة كما قدراتها في العبث بأمن بعض بلدان المنطقة واستقرارها ومسارها ومصيرها.

يتحدث كاميرون عن أنّ إيران "ذات تأثير خبيث في المنطقة والعالم". يثير الرجل اتهامات لأجهزة مخابرات طهران في استهداف صحافيين إيرانيين معارضين على أراضي المملكة المتحدة. ويتهم طهران باستخدام فصائل مثل "حماس" في فلسطين والحوثيين في اليمن و"حزب الله" في لبنان والجماعات الولائية في العراق لمصلحة أجندة إيران. ويقول إنّه يجب إرسال "رسالة واضحة إلى إيران مفادها بأنّه لن يتمّ التسامح مع هذا التصعيد". ولئن تعايشت بريطانيا والمنظومة الغربية مع هذا الواقع على مدى العقود الأخيرة، غير أنّ وزير الخارجية البريطاني يقول هذه المرة إنّ "الأمور تغيّرت".

سيكون من المبكر تصديق نظرية تغيّر الأمور في تحليل كاميرون ومواقفه. فبعد ساعات على عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي خرج وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن ليقول إنّ الولايات المتحدة لا تملك أدلّة على تورّط إيران في هجوم "حماس" في غلاف غزّة. جاءت تصريحات الوزير الأميركي سابقة على نأي إيران بنفسها عن أي ضلوع في "الطوفان"، مؤكّدة أنّ "حماس" اتّخذت قرار العملية بشكل مستقل. حتى أنّ كل منابر طهران بالغت لاحقاً في إطلاق مواقف تُبرئ إيران من الأمر، لدرجة تسريب طهران إلى وكالة "رويترز" رواية بشأن عتب المرشد علي خامنئي على رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية لعدم إبلاغ الحركة إيران بما خطّطت له.

وفق تصريحات كاميرون فإنّ "الأمور تغيّرت"، وأنّ حرب غزّة تفرض قواعد جديدة في تعامل لندن، على الأقل، وربما من ورائها واشنطن وكل المنظومة الغربية، مع "الحالة" الإيرانية. والواضح أيضا أنّ عواصم كبرى تستعد للتموضع في اليوم التالي لحرب غزّة على نحو لا يسمح ربما لإيران بفرض أمرها الواقع في المنطقة والعالم. فإذا ما سعت الولايات المتحدة إلى ضمان تحييد إيران من خلال تبرئتها من "طوفان الأقصى"، فإنّ إيران، انخرطت من خلال فصائلها في الحرب بإيقاع ومستوى مدروسيْن، في السعيّ لتوفير مكان ومكانة لطهران في تسويات ما بعد غزّة.

غير أنّ تعّهد كاميرون أن تعمل بريطانيا مع حلفائها من أجل "تطوير مجموعة قوية من الإجراءات الرادعة" ضدّ طهران يبقى كلاماً إنشائياً مكرراً سبق للندن وواشنطن وغيرهما من العواصم الغربية أن لجأت إليه، من دون أن ترقى التهديدات إلى المستوى الذي يمكن أن يكون رادعاً. ولئن اعتبر وزير خارجية لندن أنّ طبيعة هذا الردّ "ليست حالياً للتداول العام"، فإنّ ذلك لم يُظهر تبدّلاً جذرياً للمقاربات التي اعتادت بريطانيا وحلفاؤها اعتمادها في العلاقة مع طهران.

واللافت أنّ مواقف الوزير البريطاني أتت بعد جولة خارجية قادته في جزء منها إلى الشرق الأوسط (مصر والأردن). والواضح أنّ لندن (كما واشنطن قبلها) استنتجت تبرّماً عربياً من السياسة الغربية بعامة، سواءً في الموقف الجديد من الحرب في غزّة وما تهدِّده لكل المنطقة، أم في الموقف القديم من إيران الذي تراوح بين الانتهازية والتواطؤ. كما أنّ لندن وكل المنظومة الغربية تراقب بقلق نزوع دول المنطقة إلى الاختلاف مع الغرب والنفور من سياساته، وذهابها باتجاه تنوّع في سياساتها الخارجية تقرّبها من الشرق في نسختيه الصينية أو الروسية.

ومع ذلك، سيصعب على المراقب أن يؤمن بتغيّر جذري في التعامل الاستراتيجي لبريطانيا والولايات المتحدة مع الجمهورية الإسلامية. فتهديد إيران الممرات المائية الدولية هو واقع له سوابق مثبتة، ويدفع الغرب ثمن تذبذب مواقفه بشأن جماعة الحوثي في اليمن. و"الحالة" الإيرانية في الشرق الأوسط هي واقع ومن غير الواضح ما هي "الأمور التي تغيّرت" وبات من الصعب على لندن التعايش معها.

أشار كاميرون إلى أنّ بريطانيا تريد إرسال "تحذير واضح جداً الى الحوثيين وداعميهم الإيرانيين، بأننا لن نتسامح مع هذه الهجمات المستمرة على خطوط الشحن". غير أنّ كاميرون الذي وصف تهديدات إيران بأنّها "واحدةً من خمس أزمات دولية كبرى (إلى جانب الحرب الروسية - الأوكرانية، والصراع في الشرق الأوسط، والإرهاب، وتغيّر المناخ)، يكشف في تصريحه أنّ الورطة في إنهاء حربي أوكرانيا وغزّة توهن تهديداته في إرسال ردود ضدّ إيران لن تكون قاسية إلاّ إذا كان طابعها عسكرياً، ناهيك بأنّ العسكرة خيار تمقته حسابات الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة وبريطانيا نفسها.