قبل نحو 15 عاماً، أثنى ديفيد كاميرون على إسرائيل لأنها "تسعى جاهدة إلى حماية حياة الأبرياء"، في سياق عملية "الرصاص المصبوب" ضد غزة. وفاته أن يذكر يومها أن الهجوم أوقع نحو 1400 ضحية فلسطينية خلال ثلاثة أسابيع في أواخر عام 008 وأوائل 2009!

قد يقول قائل ما أشبه اليوم بالبارحة. لكن ثمة فروقاً مهمة.

لم تعد إسرائيل تحارب الغزاويين، بل تحاول إبادتهم. ولم يعد هو قادراً على تبني موقف واضح كهذا الذي أعلنه بوصفه زعيم المعارضة البريطانية عشية انتخابات كانت ستُعيد المحافظين العام التالي إلى السلطة التي أمسكوا بها منذئذ. وهو الآن غير منتخب وضعيف تقف الغالبية العظمى في الحزب والحكومة إلى يمينه. خلع عليه ريشي سوناك لقب لورد وأعاده إلى الوزارة ليضفي عليها بعض "الاعتدال" ويمدها بالخبرة.

من أقطاب اليمين المهيمن، وأكثرهم صخباً في تأييد إسرائيل وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان التي شجبت ميل الخارجية إلى المساواة "بين إجراءات إسرائيل الدفاعية وإرهاب حماس"، وأكدت أن تل أبيب تستحق الثناء لأنها "تبذل جهوداً أكبر من الاحتياجات الضرورية من أجل ضمان بقاء إصابات المدنيين محدودة".

تبدو هذه الادعاءات قريبة من شهادة وزير الخارجية المذكورة آنفاً. فهل يتفق معها في الجوهر، وإن كان هناك تباين "شكلي" في الأسلوب بينهما؟

قيل عند تعيينه إنه يملك حرية مطلقة في عمله الجديد كـ"رئيس وزراء الخارجية". إلا أنه كان تابعاً أكثر منه سيداً منذ توزيره قبل خمسة أشهر وتلقى صفعات عديدة. كادت تصريحاته المعتدلة تجاه الحرب الحالية على غزة التي رفع نبرتها أحياناً بخجل أن تسبب أزمة دبلوماسية. ذكر أن إسرائيل تمنع مرور شاحنات المساعدات الغذائية إلى غزة، مؤكداً أن مسؤوليتها القانونية كدولة محتلة تقتضي الكف عن ذلك، فكذّبه عملياً ناطق رسمي إسرائيلي. وسرعان ما أُنهيت خدمات الموظف لتطويق تداعيات قلة لباقته وعدم دقته.

وأثارت انتقاداته الخفيفة لإسرائيل وإعرابه عن الاستعداد للاعتراف بدولة فلسطينية، استياء كثيرين. فالحكومة البريطانية مليئة بأنصار نتنياهو، حسبما قال الوزير السابق آلان دانكان أخيراً. وفي الوقت الذي كتب فيه مؤكداً أن "دعمنا لإسرائيل ليس بلا شروط"، كان نائب رئيس الوزراء أوليفر داودين، على شاشات التلفزيون، يهاجم أشخاصاً مزعومين يطيب لهم أن يتحاملوا على إسرائيل. وبالطبع لم يُشر إلى كاميرون، بيد أن الشرخ كان بادياً للعيان.

رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون لا يقل تحيزاًِ لإسرائيل عن أي من صقور اليمين. وكان صديق كاميرون قبل أن "يخترع" قصة البريكست التي أخرجته من السلطة. وقد تجرأ بطل فضيحة "بارتي غيت" على مهاجمته لتأخره في الإعلان عن رفضه مشورة محامي الخارجية المتعلقة بحظر بيع السلاح لإسرائيل!

لكن هل يستحق اللورد كل هذا؟

كان في 2009، متعصباً لإسرائيل، ثم انقلب عليها في العام التالي في أولى زياراته لتركيا حيث دعا إلى فك الحصار عن غزة التي وصفها بـ"سجن مفتوح". وبعد ذلك ظل صديقاً لتل أبيب ولا يزال. غير أنه يواجه حالياً أنصارها الأشد تطرفاً كجونسون من جهة، ويتعرض للمساءلة من المعتدلين في الحزب الحاكم وخارجه، من جهة ثانية.

مثلاً، رئيسة لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس العموم النائبة أليشيا كيرنس التي تعتبر من المحافظين المعتدلين ألحّت عليه في جلسة استجواب استثنائية لتأكيد تسلمه مشورة مفادها أن إسرائيل تخرق القانون الدولي. وبدت متضايقة لعدم تعاونه حين تهرب من الإجابة.

وكان قتل إسرائيل لسبعة من ممثلي جمعية “المطبخ المركزي العالمي" الخيرية، في غزة، بينهم 3 بريطانيين، قد أخرج الكثيرين عن صمتهم. فدماء سبعة أبرياء بيض البشرة هزت بقوة ضمير عالم غربي لم يحركه مقتل آلاف النساء والأطفال والمدنيين العزل على مدى ستة أشهر. وكانت هناك انتقادات للحكومة، ومن ضمنها بطبيعة الحال كاميرون، من جانب اللورد هوغو سواير وهو وزير سابق مثله مثل النائب ديفيد جونز والنائبة فليك دراموند وجميعهم طالبوا بعدم إرسال المزيد من السلاح إلى إسرائيل. وأخذ آخرون على المسؤولين عدم التعامل بصرامة مع بلد يرتكب عمليات إبادة غير آبه بالقانون الدولي.

وقدم 600 من كبار القضاة والخبراء القانونين تصدرتهم رئيسة المحكمة العليا سابقاً الليدي هيل، مطالعة في 17 صفحة، لتحذير الحكومة من أن استمرار تصدير السلاح إلى إسرائيل قد يشكل انتهاكاً للقانون الدولي.

وفي نهاية المطاف، خَفتت نبرة كاميرون وتراجع عن "عتبه" الخجول على إسرائيل وراح يتحدث عن حقها في الدفاع عن نفسها ويغلّب قضية الأسرى على الضحايا الغزاويين. وأعلن أن تصدير السلاح إلى تل أبيب سيبقى على حاله.

وقال بعد تردد وصمت طويلين، إنه لن ينشر المشورة القانونية حول غزة. واكتفى بتطمين الناس إلى أن الحكومة ستلتزم بما قاله خبراؤها القانونيون. ومن يصدق ذلك في نظام ديموقراطي يدعي الشفافية إذا لم تُنشر المشورة القانونية؟

حزب العمال الذي ينافس المحافظين على تأييد إسرائيل، يطالب بنشر المشورة، متناسياً أن زعيمه الأسبق توني بلير رفض الكشف عن رأي المحامين الذين حذروه من أن غزو العراق يمثل انتهاكاً للقانون الدولي.

هكذا يتضح أن كاميرون أضعف من الذهاب عكس التيار في حزبه الذي أسلم روحه لليمين واليمين المتطرف. فهو الوحيد "المعتدل" نسبياً بين صُنّاع قرار يغالون بدعم إسرائيل. هكذا انحنى كبراغماتي أمام العاصفة المتحمسة لاستمرار عمليات الإبادة، وعاد كما كان في 2009!

كان هناك زعماء محافظون شجعان وضعوا حدوداً لتساهلهم مع إسرائيل. تيد هيث فرض حظر أسلحة عليها في 1967، وكذلك فعلت مارغريت تاتشر في 1982 بسبب اجتياح بيروت. وفي 2014 استجاب كاميرون على مضض لضغوط الديموقراطيين الأحرار شركائه في الحكم، ومنع تصدير بعض الأسلحة، وليس كلها، إلى إسرائيل، التي كانت تحارب غزة. أما الآن، وحتى إذا أراد "معاقبتها" شكلياً، فلن يستطيع.

كاميرون أشبه ببطل تراجيدي شكسبيري يسقط نتيجة خلل جوهري فيه. وموطن ضعفه هو ثقته البالغة بقدرته على ترويض الأنواء وركوب المخاطر لتجييرها لمصلحته. لم تعلمه غلطته بالدعوة إلى استفتاء البريكست في 2016 أنه ليس "سوبرمان" وعليه ألا يتصدى لمهمة مستحيلة. وقبل أن يحاول إنعاش حكومة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة في زمن الكوارث، غامر بالعمل مع سياسيين أكثر تطرفاً منه، فبدا معتدلاً بالمقارنة معهم أول الأمر. وبدلاً من أن يؤثر فيهم، غيروه وأخذ ينطق بلسانهم. فهل هذا شكل من أشكال السقوط التراجيدي الأخلاقي والسياسي؟