بدأت الإجازة الصيفية وحزم بعضهم حقائبهم ورحلوا إلى اتجاهات عديدة لقضاء الإجازة في أنحاء العالم، وسيرحل المزيد للهدف نفسه خلال الفترة المقبلة حفظهم الله الجميع وأعادهم إلى أحضان الوطن بالسلامة. وقبل البدء أود التأكيد بأن القصد من هذا المقال ليس الدعوة إلى عدم السفر للخارج فهذا اختيار شخصي لكل مسافر حسب إمكانياته وظروفه لكن الدعوة إلى التأمل في الأثر الاقتصادي لمثل هذه الرحلات، على مستوى الفرد أو على الاقتصاد الوطني عموما، وهو الأثر الذي جعل الدول المتقدمة أو النامية تسعى إلى الحصول على نصيب من هذا المصدر وما يمتاز به من قدرة على استقطاب العملة من خارج البلاد وتوظيف اليد العاملة، والحديث عن اقتصاديات السياحة يحتاج إلى مقالات متخصصة، لكني دعوت السائح للتأمل فيها ليتذكر الأثر الذي قد تتركه ممارسة بسيطة إذا لم تكن في محلها على اقتصادياته هو ومدخراته، وما يمكن أن تكون جدواها للحركة الاقتصادية في بلاده إذا كانت سياحته داخلية أو إسهامها في تسريب مزيد من الاقتصاد المحلي إذا كانت سياحته خارجية.
طبعا أنا لا أدعو إلى عدم السفر إلى الخارج ولكنها دعوة لطرفي المعادلة السياحية (طالب الخدمة ومقدمها) لاستحضار هذه الأهمية عند رسم الخطط، مع عدم إغفال أن السائح اليوم أصبح أكثر وعياً وتطلباً لمستويات الخدمة، إذ لا يمكن أن تتحول دعوات قضاء جزء من الإجازات في الداخل دعوات تخاطب الوطنية، فالجميع محبون لبلادهم ويتسابقون للبذل لها، ولكن في صناعة السياحة الأمر يدور على توفير الخيارات وتعزيز البرامج السياحية ومراقبة الجودة وضبط معادلة الخدمة مقابل السعر.
وهذا المارد الذي أطلقته بلادنا والميدان الواسع الذي نصت رؤية السعودية 2030 على أهمية توظيفه بالصورة اللائقة بما تملكه السعودية من غنى تراثي وتنوع جغرافي ومناخي وشعب مرحب بفطرته ومقومات سياحية يندر أن تجتمع في بلد واحد يتطلب مزيدا من الاستثمارات وتوفير الخيارات للسياح في مناطق السعودية المختلفة، وبالمقابل هي دعوة لمراجعة ثقافتنا السياحية التي جعلت منا أحد أكثر السياح عالميا في مستوى الإنفاق، وارتبطت عندنا السياحة بمزيد من الصرف حتى على الأشياء التي لا نحتاجها، فلا جدوى من البحث عن سكن يفوق حاجتنا أو يزيد على مستويات الرفاهية المقبولة، أو الصرف على أشياء لا نستخدمها مثل الإصرار على أن توفير سيارة فاخرة لا يستعملها في اليوم إلا قليلاً، ثم مدة الرحلة تحتاج إلى مراجعة لئلا تكون المجاراة أو التباهي بقضاء إجازة أطول خارج البلاد، أو المزيد من التسوق وكأن بلادنا ليس فيها أسواق وشراء ما لا تحتاجه الأسرة أحياناً لمجرد التفاخر.
وعودة إلى الأرقام أقول إن بعض الإحصاءات قد كشفت بأن السياح السعوديين في الخارج في صدارة السياح العرب إنفاقاً وعدداً وتتنافس عديد من الدول على استقطابهم، ويقدر عدد الذين يسافرون للخارج للسياحة بصفة منتظمة بـ13 مليون سائح سنوياً.
وأخيراً: قد تكون معادلة السياحة تتطلب خطوة من كل طرف، فالسائح لن يُقدم على مزيد من رحلات الداخل إلا إذا توفرت له الخيارات والبرامج بأسعار ملائمة وجودة عالية، وهذه الخِيارات والعروض لن يُقبل عليها المستثمرون إلا إذا رأوا الطلب يتزايد والإقبال ينمو، لذا جاء دور الجهات الممكنة مثل صندوق التنمية السياحي وبقية منظومة السياحة لكي تضاعف جهودها لدعم الخيارات السياحية الملائمة للدخول الاقتصادية والاهتمامات المختلفة، وكذلك توفير البرامج السياحية عبر منظومتي السياحة والثقافة في المناطق، لتنمو أعداد السياح ويزداد الأثر الاقتصادي على المتحقق في العام الماضي 2023 الذي استضافت فيه بلادنا 106 ملايين زيارة سياحية (معظمها من الداخل) والاستبقاء على جزء من المبالغ المتسربة إلى الخارج عبر فاتورة السياحة وما أنفقه السعوديون في الخارج التي وصلت 2022 رقماً غير مسبوق بلغ نحو 88 مليار ريال.

المقال نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية