إن المواقف والسلوكات التي تطلقها الدول، تظل مجرد شعارات لا قيمة لها، من المنظور الاستراتيجي، في غياب إمكانات ومقومات للقوة تعززها، وتدعمها ميدانياً، ومن هذا المنطلق فالقوة في العلاقات الدولية لا تقاس بامتلاك عناصرها، ولكن بالوعي بها، وبأهميتها، وبحسن استثمار الإمكانات المتاحة في هذا الصدد على طريق تحقيق الأهداف والدفاع عن المصالح المختلفة.

يعد المجال البحري من ضمن العناصر التي تدعم قوة الدولة، وكذا حضورها الدولي، وتبرز الأحداث والوقائع التاريخية أن استثمار الإمبراطوريات والدول لمجالها البحري، وتطوير أساطيلها على هذا النحو، أسهم في تعزيز موقعها على المستويين، الإقليمي والدولي.

ووعياً بالإمكانات التي تزخر بها القارة الإفريقية، ورغبة في دعم ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي، وإرساء نمط بنّاء ومتوازن من التعاون جنوب - جنوب الذي يتأسس على الربح المتبادل، أطلق المغرب «المشروع الأطلسي الإفريقي»، الذي يقوم على مرتكزات اقتصادية، وأخرى أمنية، تعكس الرغبة في إرساء توجهات استراتيجية تعزز الحضور الأطلسي للقارة، وهي تندرج ضمن المشاريع الكبرى التي أطلقها المغرب خلال السنوات الأخيرة، كما هو الشأن بالنسبة إلى ميناء طنجة المتوسطي، ومشروع الداخلة الأطلسي ومشروع تحلية ماء البحر، إضافة إلى مشروع أنبوب الغاز المغرب - نيجيريا.

تتزامن هذه الخطوة مع التبدلات والتحالفات التي يشهدها النظام الدولي الراهن، وتزايد التهافت على القارة الإفريقية التي تزخر بعدد من الخيرات الطبيعية والإمكانيات البشرية والاقتصادية، كما أنها تتصادف مع الجمود الذي يطبع «اتحاد المغرب العربي»، ومع فشل المقاربة الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، والتي قادتها فرنسا، وعدد من الدول الغربية، ولم تفض لا إلى تحقيق التنمية، ولا إلى إرساء السلام والاستقرار في هذه المنطقة؛ التي ما زالت تعيش على إيقاع الهشاشة والمعضلات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وحتى الأمنية التي استغلتها الكثير من الجماعات المسلح،ة وشبكات التهريب، لبسط تمددها في هذه المناطق.

وتنطوي المبادرة التي تعكس الوعي بأهمية التعاون والتنسيق لكسب رهانات مشتركة، على أبعاد استراتيجية متعددة، نجملها في: تعزيز الأمن البحري، ومواجهة مختلف المخاطر العابرة للحدود، كما أنها تعبّر عن رؤية استشرافية تتيح استيعاب التحديات والفرص المستقبلية، وتسمح لدول المنطقة (الساحل الإفريقي) بتعزيز موقعها وحضورها على المستويين، الإقليمي والدولي؛ أخذاً في الاعتبار أهمية الموقع الجغرافي لهذه البلدان، كحلقة وصل بين شمال وجنوب قارة إفريقيا، حيث تنحو المبادرة إلى جعل الواجهة الأطلسية منطلقاً للتواصل الإنساني، والتعاون الاقتصادي، والإشعاع الحضاري.

على المستوى السياسي، يمكن للمبادرة أن تساهم في تقوية دور الدولة في منطقة الساحل، وتعزز الاستقرار السياسي فيها. وعلى المستوى الأمني، سيوفر تفعيل المشروع إرساء شروط الأمن في المنطقة، وتضييق الخناق على الجماعات الإرهابية وشبكات التهريب والهجرة غير الشرعية.

وعلى المستوى الاقتصادي، لا تخفى أهمية الاقتصاد الأزرق الذي يوفر عدداً من الفرص، حيث يفتح المشروع آفاقاً واعدة للشراكة والتعاون في هذا المجال. كما سيسمح باستكشاف واستثمار الثروات البحرية، وبتعزيز الاستثمارات في السواحل الأطلسية، وبإطلاق عدد من المشاريع التنموية الكبيرة في هذه المناطق، كما سيسمح بتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية الإفريقية مع الفضاء الأمريكي بشقيه، ما سينعش اقتصادات دول الساحل الإفريقي التي تحتضن نحو 85 مليون نسمة، وإمكانات الطبيعية مختلفة (فلاحة، يورانيوم، غاز، نفط، حديد، نحاس، ذهب)، ويتيح لها ولوج المحيط الأطلسي، بما يدعم استقلاليتها الاقتصادية، ويقوي سبل حماية ثرواتها الطبيعية، والأمر نفسه بالنسبة إلى باقي الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي الغنية بثرواتها الطبيعية أيضاً.

إن بلورة هذا المشروع على أرض الواقع، يتطلب اعتماد مجموعة من التدابير والمشاريع، من حيث توفير البنى التحتية من طرق، وموانئ، وسكك حديدية، وشبكة اتصالات، رهن إشارة بلدان الساحل الإفريقي، وتأهيل الواجهة الأطلسية بمشاريع كبرى، وتعزيز جهود التنمية وتطوير البنى التحتية في المناطق المطلة على هذه الواجهة، ثم تعزيز الأسطول البحري لهذه البلدان.

كما يتطلب تطوير الإمكانات اللوجستية، وحسن توظيف الفرص التي يزخر بها الاقتصاد البحري (الأزرق)، بما يسمح بتحقيق التنمية، وتشجيع الاستثمار في مجال الصيد البحري، وتعزيز التنقيب عن الموارد الطبيعية في المجال البحري، علاوة على تشجيع السياحة في الواجهة الأطلسية، وفتح آفاق جديدة للتعاون مع البلدان الإفريقية، والمساهمة في تعزيز الاستقرار في دول منطقة الساحل الإفريقي، عبر مساعدتها على تحقيق الأمن والتنمية.

كما يتطلب الأمر من البلدان المعنية بالمشروع تخصيص تمويلات ضخمة لإنشاء شبكة من الطرق والموانئ والمطارات والسكك الحديدية، والبحث عن شراكات وجلب استثمارات أجنبية كفيلة بإنجاح هذا المشروع.

ولا يخلو تنفيذ هذه المبادرة من تحديات وصعوبات، يمكن إجمالها في غياب بنى تحتية تسمح لدول الساحل بولوج المحيط الأطلسي، وكذا الكلفة المالية للمشروع الذي يتطلب تمويلات، وعقد شراكات، إقليمية ودولية، إضافة إلى الإشكالات التي يطرحها عدم الاستقرار السياسي والأمني، في بلدان الساحل والصحراء، إضافة إلى التدخلات التي تباشرها الدول الكبرى في هذه المناطق؛ بما يحول دون اتخاذ قرارات سيادية تدعم مصالحها (بلدان الساحل والصحراء).