ما زلت أتذكر رسماً كاريكاتورياً أثار انتباهي، للفنان المصري جورج بهجوري، الذي سيصبح لاحقاً صديقاً لي. يظهر في الرسم مناحيم بيغين، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، واقفاً إلى جانب بئر، بينما الرئيس المصري الراحل محمد انور السادات قابعاً في دلو يستعد للنزول إلى قعرها، ولسان حاله يقول: "أنا نازل أجيب حقوق الفلسطينيين من بئر السبع".

نُشر هذا الكاريكاتور في مجلة "الوطن العربي" الباريسية إبان مفاوضات كامب ديفيد في أيلول (سبتمبر) 1978، التي مهّدت لتوقيع المعاهدة المصرية - الإسرائيلية في آذار (مارس) 1979.

بعد شهور قليلة على مشاهدتي لرسمه الكاريكاتوري، جاء بهجوري إلى مسقط رأسي أصيلة ضيفاً على موسمها الثقافي الدولي في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وصرنا أصدقاء. وكلما جاء بهجوري إلى أصيلة كان طولي يتزايد لدرجة أنه أهداني مرّة كتاب رسومات للأطفال أصدرته دار ثقافة الأطفال في بغداد، عنوانه "عندما أسافر"، وكتب عليه إهداء جاء فيه: "إلى صديقي الكبير حاتم، من صديقك الصغير بهجوري".

استمرت صداقتنا، وتعدّدت لقاءاتنا في باريس. وظل يتردّد سنوات طويلة على أصيلة ومواسمها الثقافية.

زرته مرّة في منزله الكائن في آخر طابق من بناية في جزيرة سان لوي في الدائرة الباريسية الرابعة، غير بعيد من منزل صديقه الفنان المصري - اليوناني - الفرنسي الراحل جورج موستاكي. وأنا أصعد سلم العمارة المتعب والمرهق للشباب مثلي، فما بالك بالنسبة للشيوخ والكهول، كنت أردّد الأبيات الأولى من قصيدة "مطاردة الوجه الهارب" التي كتبها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي عن بهجوري، ونشرها في مجلة "المجلة" اللندنية في بدايات الثمانينيات.

يقول مطلع القصيدة: "سلمك العالي / إلى أين يؤدي؟ / درج يصعد والروح تحن للقرار / وسان لوي بدخانه الشاتي / يرتدي قبعاته…".

وجدت بصحبة بهجوري في منزله الضيّق، الفوضوي، المتعطّر بعبق الفن، الكاتب والناقد المصري الراحل الدكتور غالي شكري، والناقد السينمائي المصري صبحي شفيق، والشاعر اللبناني والصحافي بسام منصور، الذي كان يعمل آنذاك في مجلة "كل العرب". وبما أنني وجدت نفسي في حضرة النقد والشعر، اغتنمت المناسبة للحديث عن القصيدة.

كنت أظن أن حجازي يقصد بـ"سلمك العالي" السلم المؤدي الى منزل بهجوري، وقد شاطرني الظن الشاعر منصور. أما الدكتور شكري فكشّر عن أنيابه النقدية قائلاً بلهجة عامية مصرية صارمة: "لو سمع حجازي الكلام ده حيزعل"، مبيناً أن صاحب ديوان "مرثية العمر الجميل" يقصد شيئاً آخر، وأنه استقى الصورة من إحدى قصص النبي يوسف المنصوص عليها في التوراة، كما استشهد بأدلة نقدية كثيرة.

تبيّن لي لاحقاً أن القصيدة تعبّر عن أسلوب حجازي الشعري الذي يتميز بالعمق الفلسفي والتعبير عن قضايا إنسانية من قبيل الاغتراب، والبحث عن الذات والهوية في عالم مضطرب، والهروب من الواقع.

لم يكن الوجه الهارب في القصيدة سوى إشارة إلى جوانب متعددة من الذات التي يحاول الإنسان اكتشافها وفهمها، لكنه يجد صعوبة في ذلك بسبب تداخل عوامل خارجية وداخلية، بينما تبقى مطاردته مجرد تعبير عن الجهد المستمر والمحاولات الدؤوبة للوصول إلى فهم أعمق، وهي رحلة قد تكون مليئة بالعقبات والمشاق.

سأبتعد عن الفلسفة وعوالمها وأعود أدراجي إلى الكاريكاتور لأقول إن بهجوري كان أول من رسم الرئيس جمال عبد الناصر. وروى لي مرّة أنه رغم كونه لم يسبق له اللقاء به، فإن الرئيس عبد الناصر كان يبعث له رسائل مع رئيس تحرير مجلة "صباح الخير" يقول فيها إنه "مبسوط" من رسوماته. وأخبرني بهجوري أنه حاول أن يرسم ناصر وهو على بعد متر منه، لكنه لم يتمكن من رسم سوى عينيه. وحينما سألته لماذا لم يرسم وجهه كله، ردّ ضاحكاً: "خفت أرسم أنفه الكبيرة ف……".

سخرت رسومات بهجوري كثيراً، من دون رحمة ولا شفقة، من السادات بعد ذهابه إلى إسرائيل، ما جعل بهجوري في مرمى نيران الصفحات الأولى للصحف المصرية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ. فقد أمر السادات باستجوابه من طرف المدّعي العام.

ارتبط اسم ناصر بنكسة حزيران (يونيو) 1967، بينما ارتبط اسم السادات بالانتصار في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وتحقيق السلام مع إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، ظل ناصر محبوب الجماهير. وأتساءل هنا: لماذا تحب الشعوب العربية القادة المنهزمين وتنبذ القادة المنتصرين والناجحين والمتحلين بالحكمة وأعمدتها؟

خاض السادات الحرب محققاً هدفه الاستراتيجي المتمثل في كسر شوكة العدو، وإلغاء أسطورة خط بارليف، والذهاب إلى مفاوضات السلام من موقع قوة. تنبأ بزوال الاتحاد السوفياتي، واكتشف مبكراً أن 99 في المئة من الحل في منطقة الشرق الأوسط هو بيد أميركا، ولعب اللعبة مع صديقه هنري كيسنجر باتقان، واستعاد سيناء إلى باقي التراب المصري من دون إراقة نقطة دم واحدة، لذلك استحقّ عن جدارة لقب "بطل الحرب والسلام".

أذكر أنني حين قرأت كتاب "خريف الغضب" للكاتب الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، تعاطفت بلا حدود مع الرئيس السادات وأُعجبت به أكثر، على الرغم من أن الكتاب كان مسيئاً له. أُعجبت بدهاء السادات السياسي والدبلوماسي، وكاريزمية زعامته، وشخصيته المصرية القحة، وزاد إعجابي به جراء استطاعته الخروج بمصر من عنق الزجاجة.

لم يكن خافياً أن هيكل كان متحاملاً على السادات، ولم يُنصفه في معرض تحليل سياساته، بل ذهب بعيداً حينما عيّره بلون بشرة أمه،

وبدا واضحاً أن هيكل في خريف غضبه صفّى حسابات شخصية مع السادات، لا سيما بعد الخلافات التي نشأت بينهما عقب تولّيه حكم مصر.

كان هيكل يُمنّي النفس بدور كبير إلى جانب السادات، مشابه لدوره مع ناصر، لكن الرياح مضت بما لا تشتهيه سفنه، ناسياً أن لكل زمن رجاله، ونساءه أيضاً.