غسان زقطان

سمحت "حرب الإبادة" التي تشنها حكومة نتنياهو في غزة وفي الضفة، بتبين الثغرات الكثيرة في الأداء الفلسطيني الإعلامي والسياسي، وضعف أدواته وافتقار منظومته إلى الكفاءة، وأظهرت، بشكل مأسوي، هشاشة الخطاب الرسمي الموجه إلى العالم. يمكن هنا الحديث عن بعض الاستثناءات، ولكنها استثناءات قادمة من مبادرات شخصية بمجهود ذاتي وليست امتداداً للمنظومة بقدر ما يمكن اعتبارها خروجاً عليها، ولعلها ساهمت، من دون قصد، في انكشاف الهلهلة التي تعيشها هذه المنظومة.

غياب القراءة للواقع الجديد الذي نشأ بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وضعف إدراك تدفق التحولات، وعدم القدرة على التعامل مع ما يتغير والأشياء التي خرجت من هيئاتها الساكنة، دفعت هذه المنظومة نحو "موقف دفاعي" يتغذى على مجموعة من "الثوابت" و"الإعادات"، نوع من الالتجاء إلى الماضي الذي يبدو أكثر أمناً من راهن متغير.

الماضي الذي يبدو مأموناً هنا هو "الغيبوبة" التي استغرقت فيها المؤسسة الفلسطينية الرسمية في العقدين الأخيرين، تاركة خطابها الذي أنتجته سنوات التعثر وحيداً من دون إضافات، يواصل دورانه مثل أسطوانة مشروخة في أكثر من مكان.

حقبة منزوعة من سياقها، مثل قطار دخل في سكة جانبية، اقتصرت تقريباً على إدارة الانقسام والدوران في المكان وتغييب الزمن، بحيث تحول الأمر إلى زمن لا يتقدم وثقافة قائمة بذاتها، ثقافة مجوّفة ومنفصلة عن الواقع الوطني. من هناك بالضبط يأتي الخطاب، الخطاب الرسمي، من ماضيه، ومن ابتعاده المتسارع في السكة الجانبية بعيداً عن المحطات والمناطق المأهولة.

خطاب غير مكلف يتغذى على بلاغة متهالكة وشيء من التذاكي والتعالي على الوعي الشعبي. نوع من الحديث مع الذات وعنها، لغة جاهزة ورطانة خشبية، وشعارات تصلح لكل الأوقات والأمكنة. مزيج من تصيد الأخطاء وتبرير القصور، ومواصلة مديح الذات تحت مسميات الحكمة والواقعية، ولكنها تبدأ وتنتهي بإلقاء اللوم على الآخرين...

كل ما يمكن أن ينتجه الانقسام وضيق المخيلة وقلة الإعداد، والأهم غياب شبه مطلق لقراءة الواقع والمحيط، وعمق التحولات التي تعصف بالمشروع الوطني والإقليم والعالم، وعجز واضح، غير مبرر، عن التخطيط لبناء واقع مختلف قائم على الوحدة التي عبرها فقط يمكن الحصول على الإصغاء. وبينما كان الأداء الرسمي والشعبوي يغرق في خطابه، كان الوعي الوطني يقرأ المتغيرات ويؤسس حضوره في العالم الجديد. هذا ما يفسر بعض التصريحات الأخيرة حول مجزرة المواصي والشاطئ الأسبوع الماضي، البيان الرئاسي وتصريحات بعض الناطقين باسم حركة "فتح" وكتابات بعض المثقفين، تصريحات يمكن تتبعها بأثر رجعي وصولاً إلى صبيحة اليوم الثامن من تشرين الأول من العام الماضي.

في الخلفية يمكن سماع أصوات تردد الجملة نفسها، ولكن بدرجات مختلفة، أصوات "مثقفين" في الغالب وسياسيين تلاشت فصائلهم ولكنها مسموعة.

الأحاديث المسموعة أو تلك التي تسعى في الحلقات المأمونة بانتظار لحظة خروجها إلى السطح، تتفق جميعاً على تحميل المقاومة جانباً من المسؤولية في مأساة غزة. المأساة وألم الناس والجرائم المروعة غير المسبوقة التي يواصلها جيش الاحتلال هي السلّم الذي تصعد عليه "ثقافة اللوم"، مستفيدة من صرخات الألم التي تطلقها الأسر المنكوبة وحجم الدمار والقتل في الاحتفال الدموي، غير المسبوق، الذي تنظمه حكومة إسرائيل بتغطية كاملة من إدارة الرئيس بايدن، الذي حتى في أحلك ساعات حكمه يوقف المارة والصحافيين وربات البيوت ومموليه و"أيباك" ليخبرهم أنه صهيوني.

فكرة الحديث باسم الناس، واحتكار التعبير عن ألمهم عبر توزيع المسؤوليات، يبدوان في بعض أشكالهما، إضافة إلى التعالي، نوعاً من التملص من مسؤولية العجز، وتهرباً من أسئلة كثيرة تدور في معظمها حول "الدور" والاصطفاف الذي من المفترض أن تقف فيه هذه القوى في الشهر العاشر من المجزرة.

وهو أيضاً نوع من العماء السياسي عما أصبحت عليه المواجهة في اليوم التالي للسابع من تشرين الأول من العام الماضي.

في الرد على هذا الطرح لا ينبغي الذهاب إلى الصراخ الشعبوي الذي يتجاهل مصائر الناس وحجم الكارثة، ويواصل الجلوس أمام أشرطة الفيديو في أزقة الشابورة والنصيرات وشارع صلاح الدين والشجاعية... وإحصاء آليات الغزو المدمرة في الأحواش والمفارق. هذا استخفاف يصل حد الابتزاز البائس لصبر الناس ووطنيتهم وقدرتهم على الاحتمال.

الحقيقة البسيطة في مواجهة العجز والشعبوية هي غياب فكرة الثقة التي تقتضيها الوصاية على الشعب، لا يحق لك وأنت تعيش تحت الطاولة أن تتحدث عن ألم الناس، ولا يحق لك وأنت تعيش في فقاعة البلاغة أن تتحدث عن هزيمة العدو.

ولكنّ ثمة سؤالاً يتجول بقوة تحت غيمة الحرب وغبارها، سؤال التقطه أخيراً بعض الفاعلين في المشهد حول: "ما هو المطلوب بالضبط"؟ سيبدو سؤالاً بسيطاً ولكنه يتمتع بالشجاعة، ويواصل تقدمه في الشارع في مواجهة معطيات العجز وعبثية البلاغة، ويقف مثل حكمة مؤجلة، لا تخلو من اتهام.

ما الذي على المفاوض وصاحب القرار أن يقدمه الآن بعد أكثر من خمسين ألف شهيد ومفقود وما يقارب المئة ألف مصاب، من دون أن يمنح القاتل المتسلسل "النصر المطلق" الذي يبحث عنه؟ بما يعنيه هذا من الحفاظ على المكتسبات، حتى في هذه المجزرة يمكن الحديث عن إنجاز ومكتسبات، ومن دون أن يعني بالتأكيد سحق المشروع الوطني الفلسطيني وتبديد قضية الفلسطينيين تحت قناع الحرص على هذا المشروع وحمايته.