علموني أن الحرب العالمية الأولى، كحروب كبيرة سبقتها في القارة الأوروبية، كانت وراء رسم حدود دول كثيرة في منطقتنا، وأن حرباً عالمية ثانية كانت وراء تثبيت هذه الحدود التي رسمتها الحرب التي سبقتها. استدعى التثبيت أن تقوم منظمة إقليمية تستند إلى شرعيتين، الأولى التميز في الهوية عن الهوية العثمانية والثانية إرادة القوى الاستعمارية المنسحبة من الإقليم كنتيجة للحرب، بمعنى آخر، كانت الحرب العالمية سبباً وراء رسم خريطة سياسية مختلفة للشرق الأوسط، وكانت حرب عالمية أخرى سبباً وراء إقامة جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية لتثبيت الحدود السياسية المقررة للدول أعضاء هذه المنظمة.لعبت مصر بهيبتها الموروثة دوراً رئيسياً في تثبيت الحدود السياسية لكل قطر وحمايته من أطماع ومصالح نخب وأحزاب في أقطار عربية مجاورة وغير عربية، وتدخلت لمنع محاولات تغيير الحدود، كموقفها من محاولات العراق المتكررة تغيير الحدود مع الكويت ومحاولة تركيا تغيير حدود سوريا عام 1957.استمرت مصر تؤدي هذا الدور إلى أن وقعت تطورات كثيرة حدّت من قدراتها على أداء هذا الدور، من بينها:أولاً: شيوع حالة من عدم الاستقرار السياسي في عدد من دول المنطقة، تسببت هذه الحالة في:* انكسار شرط قدسية الحدود السياسية للدول أعضاء الجامعة العربية تحت وقع انحدار مكانة دول وانحسار هيبة دول أخرى. كانت الحدود «النظرية» للنظام الإقليمي العربي من بين الحدود السياسية التي انكسر شرط قدسيّتها. هذه الحدود كانت، بالنسبة لنا، بمثابة علامة تعريف بخصوصية إقليم وتميزه عن إقليم آخر. حدث اختراق لهذه الحدود «شبه المقدسة نظرياً على الأقل»، بالاختراق، أعني الاحتلال وأيضاً الحصار والتدخل في تدفق الأنهار ومصادر الثروة الأخرى. في الوقت نفسه وقع الاختراق لحدوده عند القلب وأقصد تفاقم ظاهرة الاستيطان الإسرائيلي في أراض تقع ضمن حدود النظام الإقليمي العربي، بل وفي القلب منه.* الاختراق لحدود النظام تسبب بشكل مباشر في الانتقاص من شرعية جامعة الدول العربية باعتبارها المنظمة المجسدة للنظام الإقليمي والمعبرة عن قيمه وقواعد عمله والحارس لبواباته.ثانياً: باعتبار النظام العربي جزءاً أصيلاً في «عالم الجنوب» لم نتفاجأ بكونه صار يتأثر بمتغيرات عدة راحت تؤثر بشكل أو بآخر في منظومات قيم وسلوكيات دول هذا العالم. من هذه المتغيرات:* تضخم ظاهرة الشركات العملاقة متعددة الجنسية، وفي الآونة الأخيرة برزت الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات والتواصل، حتى صارت عنصراً أساسياً في عملية صنع القرار في دول عدة. كنت شاهداً على هذا الدور في أمريكا اللاتينية، خاصة في تشيلي حيث كانت شركة النحاس شريكة للحكومة في معظم قراراتها، وفي أمريكا الوسطى حيث كانت القرارات تصاغ في مقارّ شركات الموز الواقعة في ولاية فلوريدا وفي غيرها من الولايات الأمريكية. نشهد في أيامنا الراهنة الدور نفسه تلعبه شركات من نوع «ميتا» و«تيسلا» و«بوينغ» ووادي السيليكون، وكبريات شركات السلاح. لم يعد خافياً ولا مستتراً النفوذ الهائل الذي تتمتع به هذه الشركات في عملية صنع القرار ليس فقط في الدول الصناعية الكبرى ولكن أيضاً في دول العالم النامي.* تابعنا حجم النفوذ الذي تمارسه الصهيونية العالمية وعمق اختراقها لكافة أساليب ودهاليز صنع القرار السياسي في العدد الأكبر من الدول، كنا أيضاً، خلال نفس الفترة ومن قبلها، شهوداً على مدى تغلغل هذا النفوذ في هذه الدول. * من المتغيرات الهامة ظاهرة هيمنت لفترة ثم انحسرت أو هذا ما بدا لنا.. أقصد ظاهرة ما درج على تسميتها «لجان الحكماء»، بدأت باجتماعات دورية وطارئة يعقدها أشخاص من كبار النافذين في الدول العظمى مع شخصيات من قوى مؤثرة في مراكز البحث الكبرى بسرية تامة وهدفها الضغط المباشر على مراكز صنع القرار لصنع قرارات تخدم أغراضاً بعينها. أظن أن ما درجنا على تسميتها «لجان الكبار» أو «لجان الحكماء» في عالم الجنوب، جاء بمبادرة من نيلسون مانديلا والأخضر الإبراهيمي وغيرهما رداً على اجتماعات الكبار السرية التي كانت تعقد في روما وغيرها من العواصم الغربية. يرى بعض علماء السياسة أن عامل الهجرة المؤثر في معظم دول الشمال والجنوب، أحد أهم المتغيرات في عالم صنع القرار خلال السنوات الأخيرة. من مختلف مواقعنا في العالم العربي، نجد تصوراتنا متفقة مع هذا التصور لقيمة عنصر الهجرة في دوائر الفعل السياسي على المستويين العام والخاص. المدهش في الأمر أنه في دولة مثل مصر، صارت الهجرة بنوعيها، المتجهة للخارج والقادمه منه، عنصراً فاعلاً في عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي.* من الظواهر أيضاً ظاهرة استجدت ثم انتشرت بسرعة محرزة آثاراً وعلامات واضحة على مجمل العناصر المكونة لعملية صنع القرار في العالم العربي وعالم الجنوب بصفة عامة. أكتب هنا عن ظاهرة الميلشيات المسلحة، حيث بدأت الظاهرة تهدد استقرار الدول وتوسعت لتشمل ميليشيات تقيمها الدول لحماية جيوشها وغيرها من القوى الأمنية. لا يخفى أن دولاً في إفريقيا وخارجها لجأت إلى استيراد ميليشيات أجنبية لأغراض حماية الحكومات من جنوح أو تمرد مؤسسة أو أخرى ومن تهديد قوى خارجية. المؤكد أن هذه الظاهرة وقد تشعبت وتفاقمت صارت تمثل جانباً لا يمكن إهماله أو التغاضي عنه عند توفر النية لدراسة نظام سياسي في عالم الجنوب أو عمل مقارنة لأحوال الاستقرار والتغير في دول العالم العربي، ومن بينها على سبيل المثال مستقبلات الأمن الجماعي واسترداد الثقة في النظام الإقليمي العربي ومؤسساته.
- آخر تحديث :
التعليقات