موعد 5 تشرين الثاني (نوفمبر) لن يكون الموعد الحاسم في التطورات الميدانية في الشرق الأوسط، على رغم أهمية نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. السبب الأول هو أن إدارة الرئيس الحالي جو بايدن باقية في السلطة حتى منتصف كانون الثاني (يناير) المقبل وستبقى صاحبة القرارات الاستراتيجية الى ذلك الحين. السبب الآخر هو أن صوت الميدان سيبقى أعلى من أصوات الهدنة والتهدئة والتسوية والصفقة، بل أنه سيملي عليها شكل مصيرها وتوقيته. جبهات الحرب الإسرائيلية المتعددة مترابطة ومنفصلة في آن، ومن اللافت أن إسرائيل هي التي أعادت ربط صفقة غزة وإطلاق الرهائن بحربها على "حزب الله" في لبنان. الجبهة الإيرانية تبقى الميدان الأهم لإسرائيل سوى على صعيد المواجهة المباشرة أو على صعيد تحطيم قدرات الأذرع الإيرانية، بالدرجة الأولى في لبنان وسوريا، وهي التي تقرر مصير السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط. فهل إدارة بايدن تقود أو تنساق؟ وهل التحالف الاستراتيجي الأميركي- الإسرائيلي الدائم يقتضي الاختلاف التكتيكي العابر، أم أن الموافقة الضمنية على تحقيق إسرائيل أهداف تدمير "حزب الله" في لبنان هي استراتيجية أميركية- إسرائيلية مشتركة لأن قطع الأذرع الإيرانية بات شرطاً من شروط إبرام الصفقة مع إيران؟ وأين هي إيران ازاء هذه الاستراتيجية؟ هل أجبر الميدان طهران على إصلاح عقيدتها التي تشكل منطق نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأنها خاسرة للحرب حتى ولو ربحت المعركة هنا وهناك؟ لنبدأ بالصورة الجغرافية- السياسية الأوسع. روسيا لن تتمكن من مد عصا الإنقاذ الى إيران لأنها مثقلة بحربها في أوكرانيا وبالتالي عاجزة عن مساعدة حليفها الإيراني في وجه الإعصار الذي مزّق أشرعتها ويوشك على إغراق سفينتها. وروسيا لن تضغط على إيران لأنها في حاجة لها في حرب أوكرانيا، وفي التأثير على أسعار النفط، وفي الاحتفاظ بموقع قدمٍ استراتيجي لها في الشرق الأوسط والخليج، ولأن تلك الصفقة الكبرى بين موسكو وطهران التي تنطوي على تعاون عسكري ونفطي واستراتيجي باتت جاهزة. هذه الصفقة التي تحلم بها موسكو تشابه الصفقة الاستراتيجية لفترة 20 سنة بين الصين وإيران. الصين، كعادتها تضع مصالحها الاستراتيجية فوق كل اعتبار وهي تبقى صامتة ومتفرجة طالما لا حاجة بها الى التدخل. انها تراقب العلاقة الأميركية- الإيرانية التي يعمل الطرفان على تطويرها بصفقة كبرى تنطوي على تعزيز العلاقات الثنائية، ورفع العقوبات عن طهران، وإعادة إحياء الاتفاقية النووية JCPOA مع بعض التعديلات. حتى ولو انساقت الولايات المتحدة الى مواجهة عسكرية مع إيران، لن تنساق الصين الى تحالف دفاعي مع طهران في وجه واشنطن. أوروبا التي تتمتع بتمتين تحالفها مع الولايات المتحدة عبر حلف شمال الأطلسي (ناتو) ليست في وارد التورط في مستنقع الشرق الأوسط لأن مستنقعها الأوروبي يكفيها ولأن العدو الأول لها الآن هو روسيا. انقلبت الدول الأوروبية على انبطاحها أمام إيران بعدما دخلت إيران طرفاً مسانداً لروسيا في حربها على أوكرانيا. بالأمس كان الأوروبيون في غرام مع إيران وأولويتهم صفقة JCPOA فرضخوا أمام إصرارها على سلوكها الاقليمي بلا تدخلٍ منهم وباركوا استخدامها ميليشياتها للدوس على سيادة الدول العربية. اليوم، لا يمانع الأوروبيون تحطيم الذراع الحوثية لإيران التي تهدد سلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، ولا يعارضون تدمير الذراع الأقوى لإيران أي "حزب الله" في لبنان. أوروبا تتمنى كل النجاح للمباحثات الأميركية- الإيرانية عبر الوسطاء والتي تتم أيضاً وجهاً لوجه في محاولة للتوصل الى الصفقة المنشودة،لا سيما أن معظم القيادات الأوروبية لا تتمنى عودة الرئيس السابق دونالد ترامب الى البيت الأبيض لأسباب تتعلق بمواقفه من الناتو ومن أوكرانيا ومن إيران. أين المشكة إذاً؟ العقدة تكمن في العقيدة. رجال طهران يريدون تلك النقلة النوعية في العلاقات مع الولايات المتحدة ومع الغرب ككل. ما يعيقهم هو تمسكهم بعقيدة استخدام الميليشيات والقوات غير النظامية التي خلقتها طهران حتى وهي تتركها بمفردها أمام افتراس إسرائيل. بكلام آخر، وكما أثبت وزير الخارجية الإيراني في زيارته لبنان قبل أسبوع، أن طهران لن تتخلى عن تدجين سيادة لبنان والفرض عليه. بل أن فجورها كان مدهشاً لأنها ضحّت بـ"حزب الله" وبحاضنته الشيعية، ثم أتت لمنع وضع لبنان على سكة السيادة والمعافاة. الفجور الإسرائيلي يلاقي الفجور الإيراني في لبنان لأن إسرائيل بعنجهيتها المعهودة وبعقلية الحصار لا تضع استراتيجية خروج لها من لبنان بل لا تضع استراتيجية خروج أو بقاء. انها حالياً في نشوة انتصاراتها وتمكنها من تدمير ما تقول أنه يفوق 80 في المئة من قدرات "حزب الله" القيادية والعسكرية. تقول إسرائيل إنها لا تريد البقاء في جنوب لبنان، إنما ما تقوم به يوحي بأنها تريد فرض المنطقة العازلة بين الحدود ونهر الليطاني بوجودها عسكرياً ولو لفترة في تلك المنطقة. وهذا سيكون أسوأ قرار تتخذه، ليس فقط لأنها تعرّض جنودها للاستنزاف، وإنما لأنها ستعطّل عودة أهالي الجنوب المدنيين الى ديارهم، ما سيكون بمثابة زرع بذور فتنة أهلية في لبنان. وبالتالي، إذا كانت إسرائيل وإيران الفيلة التي تتصارع في الساحة اللبنانية، فإن العشب تحت أقدام الفيلة هو لبنان. السؤال الذي يطرح نفسه إذاً هو: هل في وسع الإدارة الأميركية أن تنقذ لبنان من الفيل الإيراني والفيل الإسرائيلي بعدما فشلت في تحييده لأنه كان، بحسب مزاعم أركانها، موقع قدم الانزلاق الى حرب اقليمية؟ لا الدبلوماسية الفرنسية بمفردها قادرة على إنقاذ لبنان ولا الدبلوماسية العربية جاهزة للانخراط في إنقاذه سوى بمساعدات إنسانية الآن. فقط إدارة جو بايدن قادرة، إنما هذا يتطلب منها رؤيوية وجرأة وعزم وإقدام- وقرار جدي بأن ذلك بين أولوياتها. فإذا توفرت الرغبة واتُخِذ القرار، على إدارة بايدن أن تضع لبنان على قائمة حديثها ومفاوضاتها مع إيران لتصرّ عليها بحزم أن تتوقف عن تعطيل تحييد لبنان ولتقول لها ان عليها الموافقة على تحوّل "حزب الله" الى حزب سياسي بعدما تم تفكيكه كحزب عسكري تابع لطهران. ما لم يفعل رجال بايدن ونساؤه ذلك، فهم يبيعون الكلام المعسّل للبنان وليسوا جديين نحو مصيره. هذا ينقلنا فوراً الى ضرورة استخدام إدارة بايدن حزمها الواضح مع رجال طهران لإبلاغ رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي أسقط "حزب الله" التفويض له- حتى وان لم يسعَ اليه- بأن الوقت حان له ليتصرف كرجل دولة وليس كسياسي ذكي يُحسن اللعبة السياسية. بكلام آخر، على إدارة بايدن أن تتحدث بصراحة وبحسم مع الأستاذ نبيه بري لتضع النقاط على الحروف بأن عليه إخراج مفتاح البرلمان من جيبه بلا شروط الحوار وبلا تعداد أي فريق أو طائفة تحضر جلسة انتخاب الرئيس أو تغيب. عليها الإصرار الجازم على انتخاب رئيسٍ للجمهورية الآن. لا يكفي لإدارة بايدن أن تكلّف الدبلوماسي القدير آموس هوكشتاين الملف اللبناني عندما يفضى له، بل هناك حاجة الى تعيين موفد يكرّس كامل وقته لوضع الآليات، وليس فقط لإجراء المفاوضات المباشرة وغير المباشرة مع جميع الأطراف المعنية- اللبنانية والاقليمية والدولية. والكلام هو عن آليات التنفيذ الكامل للقرار 1701 بكل بنوده، تدريجياً وضمن رزمة متكاملة، بلا تحايل أو تردد، لا من رجال الدولة ولا من رجال "حزب الله" ولا من رجال إسرائيل. هذا يعني وضع آليات لتمكين الجيش اللبناني من الانتشار في الجنوب، من الحدود حتى الليطاني، ليحل مكان "حزب الله" بعد التأكد من انسحابه كاملاً، وبعد تعزيز القوات الدولية (يونيفيل). آليات تضمن التزام إسرائيل بالانسحاب التام من جنوب لبنان بالموازاة مع التزامٍ إيراني قاطع بعدم تعطيل هذه الآليات- وإلاّ فإن إيران تكون تسهّل إعادة احتلال إسرائيل للأراضي اللبنانية. ثم هناك القيادة الأميركية الضرورية لحشد الدعم الأوروبي والعربي وراء العملية السياسية لإنقاذ لبنان والتي تتضمن بالضرورة صندوق إعادة إعمار وإعادة تأهيل للمهجرين الذين بلغ عددهم مليون و300 ألف. هذا أمر في غاية الأهمية، ليس فقط لأسباب انسانية وإنما لتجنب التوتر بين الطوائف اللبنانية وللحؤول دون فتنة وحرب أهلية لا أحد يريدها. قد يقال ان كل هذا لا مجال له سوى إذا تم احتواء حرب إيرانية- إسرائيلية مباشرة بينهما. ليس بالضرورة حتى إذا وقعت حرب طويلة مستبعدة بين إيران وإسرائيل، لا مناص من توقفها عاجلاً أم آجلاً. بل ان من الضروري للغاية بدء العمل الآن على آليات تحييد لبنان واقتلاعه من فكي الكماشة الإيرانية- الإسرائيلية. ولربما يكون تنفيذ القرار1701 وسيلة من وسائل التوصل الى تفاهمات إيرانية- إسرائيلية يريدها الطرفان مهما كابرا. لقد سقطت ذرائع التخوف من القرار 1559 الذي يطالب بنزع سلاح "حزب الله" والفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان، ذلك ان لا حاجة للتظاهر بأن سلاح الحزب سيكون موجّهاً نحو إسرائيل ومن أجل تحرير القدس بعدما أدى قرار "جبهة الإسناد" لغزة الى توريط لبنان في حرب غير قادر عليها وأدى الى تدمير جديّ لبنية "حزب الله" العسكرية والمدنية والاقتصادية والمصرفية. حان وقت إعادة النظر بالقدرات كما بالاستراتيجيات كما بالوقائع على الأرض. "حزب الله" يجب أن يتحول الى حزب سياسي وأن يتخلى عما تبقى من سلاحه لأن هذا في مصلحة حاضنته الشعبية كما هو في مصلحة شيعة لبنان. فهل يكون تحييد "حزب الله" مفتاح الصفقة الثلاثية الأميركية- الإيرانية- الإسرائيلية على تفاهمات اقليمية كبرى بعدما يعلو صوت الميدان في موازين الانتقام ثم يخفت أمام صفقات موازين القوى الجديدة الآتية الى الشرق الأوسط؟ لنر.
- آخر تحديث :
التعليقات