لا أقصد من ذكر بعض الوقائع الغابرة إعادة سرد التاريخ خاصة لمن يعرفه أفضل مني؛ إنما أريد الإشارة إلى الذهنية، والمسار الفكري الذي اعتمده متزعمون كرد في تحديد تاريخهم وتاريخ العراق وربما المنطقة أيضا! وانطلاقا منها أو دون وعيها تماما تصرف مسعود البرزاني فجر كثيرا من الكرد والعراقيين إلى نزاعات كلما جف نجيعها لسنوات أو حقب عاد ليتدفق أكثر عنفا!
كان مسعود البرزاني في قصر منيف له خزائنه وخيراته ومتعه لا ينازعه أحد فيه ولا ثمة حسيب أو رقيب عليه، لكنه أصر إلا أن يسجل القصر باسمه؛ فـأتاه من لهم في القصر حصص وأنساب وأسلاف، وتسجيل عقاري، فكان لسان حاله كما قال ابن زريق البغدادي :
أوتيت ملكا فلم أحسن سياسته وكل من لا يسوس الملك يخلعه!
كان القوميون الكرد يصرون على جذب الشعب الكردي إلى مرحلة تاريخية بعيدة جدا أو مناقضة تماما للمرحلة التي يعيشها الشعب العراقي! فبينما كان العراقيون يتحدثون بعد كل تغيير سياسي أنهم يعيشون مرحلة البناء الاقتصادي والاجتماعي وأحيانا الديمقراطي ظل هؤلاء القوميون يتحدثون عن أن الكرد يعيشون مرحلة التحرر الوطني،أي الخلاص من النير الأجنبي بينما لا يمكن عد العراقي بأي زي كان في المنطقة الكردية قوة محتلة! وعندما يعيش الناس في بلد ما في مرحلتين تاريخيتين مختلفتين يكون من المحتم عليهم أن يزجوا في تعارضات وصراعات وحروب وهذا ما عاشه العراقيون معهم لقرن من الزمن دون جدوى!
حرص الملك فيصل الأول على إسدال الستار على ذكريات الصراع الدموي وإشاعة روح التسامح والود والمساواة بين العراقيين فدعا أبناء الكرد للمشاركة في بناء الدولة العراقية منضمين لعوائل كردية كثيرة استوطنت مدن العراق منذ أواخر العهد العثماني، فأقبل كرد كثيرون إلى بغداد والموصل وساهموا في التعلم والارتقاء الحضاري وأرسل الكثير منهم في بعثات إلى الخارج، وانخرط كثير منهم في الدولة والجيش ووصلوا لأعلى مراكزهما،و برزت منهم شخصيات كبيرة كالشاعر المخضرم جميل صدقي الزهاوي وأحمد مختار بابان رئيس الوزراء، وسعيد قزاز وزير الداخلية وكثيرون صاروا وزراء ومدراء ومتصرفين وضباطا كبارا خاصة من عائلات الجاف والعارف والبرزنجي والطالباني والحيدري كما ساهم كثير من أبناء الكرد الفيلية المنتشرين في بغداد ومعظم مدن العراق في الوظائف والحياة الثقافية وبرز من الكرد عموما شعراء ومثقفون وعلماء ومن الجميل أن مصطفى جواد وهو كردي من أصول فيلية كان شاعرا وفقيها بارزا في اللغة العربية، ومعلما للملك فيصل الثاني!
في العهد الملكي قارب الكرد أن يندمجوا في المجتمع العراقي كباقي فئات وشرائح المجتمع المنحدرة من أصول عربية وتركمانية وآشورية وكلدانية ومسيحية ومندائية وأزيدية ويهودية عندما برزت الوطنية العراقية هوية للجميع، ونهض الاقتصاد العراقي ونما كثيرا بفضل النفط، والاقتصاد هو الحاضنة المادية الموحدة والمجربة للأصول والأعراق والديانات والطوائف، واستطاع الكرد أن يتقدموا في حياتهم الخاصة والعامة ويتجلى ذكاؤهم ومواهبهم ويحرزوا الكثير من النجاح والتألق وعرفوا بالجد والكرم والنزاهة، لكن للزعامات الكبيرة كما في كل المجتمعات والقوميات خلقا وشأنا آخر!
فمتزعمو الكرد الكامنون ورؤساء العشائر ظلوا يكرهون اللقاء أو العمل مع قادة الدولة العراقية في بغداد! يقولون أن قادة بغداد "غدارون متقلبون لا يمكن الوثوق بهم"، ومتزعمو الكرد المتعصبون ليسوا أقل تقلبا ونكثا للعهود أو التصرف بها حسب مصالحهم!
كان الأغوات والإقطاعيون منهم لا يريدون الخضوع لقوانين دولة متطورة متحضرة لها دستور وبرلمان على كل نواقصه وعيوبه هو أفضل من المزاج والبدائية العشائرية والإقطاعية وقد التقوا بذلك مع المزاج الإقطاعي الكبير لدى العرب في الجنوب والذين تذرع متزعموهم بالتناقض الطائفي محتميين بفتاوى مراجع متزمتة حرمت على أبناء الشيعة تقلد الوظائف أو حتى إرسال أبناءهم للمدارس بينما كان الهدف الحقيقي هو الانفراد بالسيطرة على ملايين الكادحين والفلاحين منهم واستغلالهم بعيدا عن قوانين الدولة المركزية وضرائبها ورقابتها مهما كان مستواها أو خللها ونواقصها!
وهذا الضغط والجذب القادمان من الشمال والجنوب على الدولة العراقية كان أهم أسباب سقوطها في 14 تموز 1958 أما الشعارات الوطنية والصخب الثوري فلم يكن سوى غطاء لهذه المصالح العميقة والعنيفة والتي كان لها امتداد داخل الجيش والأحزاب حتى اليسارية منها!
لم تمض سوى أيام على تسلم عبد الكريم قاسم السلطة في بغداد في 14 تموز 1958 حتى دعا مصطفى البرزاني، للقدوم إلى بغداد من منفاه حيث كان يعيش لاجئا في الاتحاد السوفيتي تحت رقابة وإشراف صارم من المخابرات السوفيتية! وقدم له البيت الذي كان يسكنه نوري السعيد مع سيارته وأجرى له راتبا أعلى من راتبه، ودعاه للمشاركة معه في بناء عراق متعدد وموحد جديد. ثبت أساسه في الدستور المؤقت " العراق شراكة بين العرب والكرد مع احترام حقوق الأقليات ألأخرى، المادة الثالثة"، وكان الراديو والتلفزيون لا يكفان عن التغني ليل نهار بوحدة العرب
والكرد وصخرتهم التي تتحطم عليها مؤامرات الرجعية والاستعمار، وكثيرون يتذكرون "هربجي"! لكن البرزاني تحت ذريعة أن قاسم لم يكلف نفسه عناء قراءة عريضته المطالبة بحقوق تفصيلية للكرد اختار السلاح والعزلة في الجبال مرددا" لا أصدقاء للكرد سوى الجبال" ! وإن "أكره شيء لديه هو زيارة بغداد!" وهذا ما يقوله مسعود اليوم أيضا، ومن المعروف في التاريخ أن مخاوف وهواجس الملوك والمتزعمين تنعكس على الناس وقديما قالوا: "الناس على دين ملوكهم!"
هكذا اختار البرزاني طريق الحلم الكردي، جعله وعرا متعرجا عبر منحدرات الجبال ومنحدرات الزمن محدثا المزيد من الفجوات والشروخ بين الكرد والعرب والتركمان! متحاشيا أي تفاعل أو لقاء مع قادة الحركة الوطنية في العراق محبطا أي تطلع من قبل الشباب الكرد لتكوين تنظيمات أو أحزاب بمحتوى ثوري تقدمي وطني وإنساني!
من الواضح أن طبيعة ومستوى الاقتصاد المتخلف المعتمد على الزراعة والانتماءات القبلية والبيئة الجبلية الوعرة، ومقاومة التواصل أو الاندماج مع الاقتصاد العام للوطن حددت مستوى النمو الاجتماعي والثقافي والفكري لدى مجتمع الكرد فلم يستطع أن يفرز سوى قيادات عشائرية أو قومية متعصبة حصرت تقريبا بالأسرة البرزانية ثم ظهر الطالباني وعائلته وثلته المتناقضة وصاروا يتزاحمون ويتصارعون على القيادة والمال وتجارة القجغ وقد وصلت في بعض الفترات إلى حروب طاحنة حتى أن مسعود في التسعينات استنجد بصدام وجيشه ليدفع عنه حصار الطالباني الذي كاد يقضي عليه بإسناد إيراني!
كان الطالباني أحد أعضاء اللجنة المركزية لحزب البرزاني وهو دون العشرين من العمر، وكان طوع بنان البرزاني، حتى تمرد عليه عام 1964 تابعا في ذلك القيادي البارز إبراهيم أحمد، حتى صار كاتم سره وساعده الأيمن، وتزوج ابنته هيرو خانم المتقدمة اليوم ندا أنثويا لمسعود! وقد سحب إبراهيم وجلال معهما مجموعة قليلة من الكوادر وأسسا ما عرف آنذاك بالمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني ثم تأسس عليه عام 1975 في سوريا الاتحاد الوطني الكردستاني؛ في محاولة لإعطاء القضية الكردية بعدا اجتماعيا وانضما للاشتراكية الدولية ولكن الحزب لم يأخذ من الاشتراكية حتى رائحتها، كما أن حزب البرزاني العشائري لم يأخذ من الديمقراطية لا لونها ولا طعمها!
حصل الطالباني على فرص الحضور في مؤتمرات الاشتراكية الدولية والتعرف على شخصياتها البارزة (منهم الإسرائيلي شمعون بيريز) وتكوين لوبيات منهم في بلدانهم! ومن الواضح أن مسعود قد ورث الكثير من خصال أبيه خاصة نزعة التفرد بالقرار والعناد فيه،كما ورث الجلاليون الكثير من خصال الطالباني أبرزها النفعية
والقدرة على اللعب على الخصوم بشتى المناورات مستعينا بالابتسامات والطرائف المرحة!
أواخر الخمسينات التف حول مصطفى البرزاني الأغوات والإقطاعيون الرافضون لقانون الإصلاح الزراعي وحصل على أسلحة كثيرة من شاه إيران فعبأ مئات المقاتلين في الجبال ثم راح يمد جسورا وعلاقات خاصة مع شركات النفط والسفارات الأمريكية والغربية. لم يكن قد مضى على الجمهورية سوى ثلاث سنين، عندما اضطر قاسم إلى مواجهته بالطائرات والمدافع قائلا إنه لا يحتاج سوى سبعة أيام ليخمد التمرد!
لكن التمرد طال كثيرا وبندقية البرزاني وكيس تبغه تحالفا مع شركات النفط وحزب البعث وبعض القوميين ومرجعية الحكيم في النجف فكان أحد أسباب سقوط قاسم في شباط 1963، ولم يعد سرا أن بيان الانقلاب الذي أسقط قاسم ومقتله مع جمهوريته الأولى كتب في بيت الحكيم وبتنسيق مع مصطفى البرزاني وقد تأسس حلفهما الطائفي القومي منذ تلك الأيام الدامية!
واليوم لم يبق مسعود وأجهزة إعلامه خطيئة أو رذيلة أو مفسدة لم ينسبها لمتزعمي الشيعة، ولم يبق كثير من متزعمي الشيعة وإعلامهم جريمة أو مثلبة أو خيانة لم ينسبوها للبرزاني وجماعته! أين كانوا جميعا عن هذه الخطايا والعاهات طيلة سنوات تحالفهم الطويلة؟ من الواضح أن هذا جاء لغاية طائفية! وذاك جاء لغاية قومانية! ولم تكن مصلحة العراق وشعبه في بالهم أبدا، وانخفاض أسعار النفط وقلة الموارد التي تتدفق على جيوب اللصوص والمرتشين هي التي فجرت أزماتهم وكان لا بد أن تأخذ واجهات من القيم والمبادئ والشعارات الكبيرة!
واليوم فقط اكتشف متزعمو الكرد أنهم سنة، وأكثروا الحديث عن الحيف الذي وقع على السنة مغازلين بذلك سنة العراق والدول السنية عربية أو إسلامية بينما كانوا هم الذين ساندوا خصومهم عليهم لسنوات وسنوات لاضطهادهم ونبذهم وكانوا من بين المتسببين في تسلل المتطرفين والإرهابيين إليهم وخراب مدنهم وتشريدهم!
وسيكون خطأ قاتلا لو اصطف متزعمو السنة أو أتباعهم مع البرزاني أو أي من قادة الكرد العنصريين. فالسنة لو كانت لديهم قيادات نزيهة وناضجة وموحدة بوعي وطني لا طائفي هو أن يكونوا مع القوى الوطنية المدنية والديمقراطية من الشيعة والعراقيين الآخرين لبناء عراق ديمقراطي حر كامل الإرادة بعيدا عن هيمنة أمريكا أو إيران أو تركيا وكل تدخلات دول الجوار مهما كانت أوضاعهم وأهدافهم أو تسمياتهم!
تعامل متزعمو الكرد مع كل المواقع والانتماءات في العراق سواء في السلطة أو في المجتمع، وقد أسدى الحزب الشيوعي العراقي خدمات كبيرة لهم أكثر من أي حزب آخر؛ فقد مثلهم في الجبهة التي أطاحت بالملكية عندما رفض البعثيون والقوميون التعامل معهم، وكرس معظم نشاطه بعد منتصف الستينات للعمل معهم متحملا اتجاهاتهم الخطرة وتنكيلهم به بين فترة وأخرى، وتجاهل مؤخرا مذبحة بشت آشان المروعة التي قتل فيها قادة من حزب الطالباني أكثر من مائة من أهم الكوادر الشيوعية وذلك لا يعود فقط لإيمانه بالمبدأ اللينيني في حق تقرير المصير بل لأنه بعد ملاحقته في بغداد، والمدن العربية الأخرى يجد عادة ملاذاً لدى الكرد، وكان يحلم بإسقاط الحكم في بغداد من الجبال، كما كانت أكثرية قيادته من الكرد! وهو قد سبق البرزاني في الانفصال عن المصير العراقي بسنوات وسنوات عبر تشكيل الحزب الشيوعي الكردستاني!
من الواضح اليوم أن هذا التاريخ المتشابك لا يمكنه أن يصنع مصيرا مستقلا أو غير متشابك للكرد أو للعراق جميعه! لذا ينبغي تلمس ما استجد في بغداد لا أربيل وحسب بعد هذه الهزة أو الزلزال القادم من الشمال!
لقد قامت العملية السياسية في العهد الحالي بمباركة أمريكية إيرانية على تحالف طائفي شيعي وقومي كردي، ألحقت به مجموعات سنية انتهازية لا تقل طائفية وتخلفا عن الطائفيين الشيعة كديكور أو كتعويذة! واليوم وقد انهار هذا التحالف وحل بدلا من العناقات وتبويس اللحى إطلاق الرصاص فوق الحزام ولغة التخوين والغدر!
أطرافها القدامى لا يريدون الإقرار بفشلهم وخيبتهم وما أوصلوا البلد إليه من خراب وفساد واضطراب أمني وأخيرا الحرب القومية بعد الحرب الطائفية تقرع الأبواب وتدق طبولها! هل هناك بعد هذه المحنة محنة؟
الطائفيون والقوميون لن يلقوا حبال اللعبة من أيديهم وسيواصلونها على خرابها ما دام العراق يحلب ذهبا، وهاهي أسعار النفط تلوح صعودا وتغريهم بالاستقتال في الصراع!
لذا فإن واجبا تاريخيا يلقى على القوى الوطنية من الشيعة والسنة والكرد والتركمان وجميع أبناء العراق ليلموا صفوفهم ويقاربوا من خطابهم السياسي حول نهج وطني ديمقراطي اتحادي يشدد على ضرورة فصل الدين عن الدولة، وينهي مهزلة الكهنوت العراقي الأسود بشقيه الشيعي والسني ويبني وطنا حضاريا سعيدا للجميع!
التعليقات