يرتبط الكدح في الحياة الدنيا بمجموعة من الطرق منها ما يكون أقرب إلى الهدى ومنها ما يلازم العكس وهنالك طرق أخرى تتشعب في الاتجاهات بحيث تصبح مجانبة لكل من الطريقين الرئيسين، وبالتالي يبتعد أصحاب هذه الطرق عن جميع الغايات المقررة في السلوك المماثل للطرق الأولى، وبتعبير آخر نستطيع القول إن حياتهم ستكون في منأى عن الإبداع، وبهذا القدر يفقد هؤلاء الشرعية الأرضية كون الإنسان الذي سار في هذا النهج لم يحصل على مقتضيات السعادة الدنيوية فضلاً عن السعادة الأبدية التي هي مبتغى كل ذي عقل، وبهذا يطمئن إلى ما هو فيه من العيش ثم يلجأ إلى الاستقلال الذي يغنيه عن اتباع الحق سواء علم به أم لم يعلم، وبذلك يكون مصداقاً لقوله تعالى: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) الأعراف 179.
من هنا يظهر الفرق بين الإنسان الذي يسعى لطلب العاجلة والإنسان الذي يريد العاجلة كذلك إلا أن سعيه لم يكن على سبيل الاستقلال وإنما يأخذ بالأسباب المؤدية إلى طريق الله تعالى، وبهذا يكون الذم قد وقع على الأول حتى لو كان من الذين وهبهم الله تعالى جميع ما يدعون في هذه الدنيا، علماً أن هذا الصنف من الناس لا يعتمد على الأسباب وإن كانت بين يديه، وذلك كون الحكمة الإلهية تقتضي أن تكون هناك مسوغات آنية قابلة للتجزئة التي تستند على الإرادة المحضة دون العطاء الجزافي الذي يتغير نظراَ للاعتبارات التي تسير بموجبها القواعد الأساسية للبناء المادي، وإن كان مبتغى الإنسان بل ومبلغه من العلم هو الوصول إلى النتائج المرادة له بغض النظر عن اقتران الغايات بمسبباتها، وقد بين تعالى الغاية التي يطمح إليها هذا الصنف من الناس بقوله عز من قائل: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا... ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) النجم 29- 30.
وكما ترى فإن الآية قد بينت للمخاطب علة الإعراض عن هؤلاء وذلك بسبب وقوعهم في الضلال والوقوف عند هذا الحد دون البحث عما هو أرقى من هذا المبلغ الذي لا يريدون الخروج منه، وبهذا تكون الدنيا هي أقصى غاياتهم علماً أنهم لا يملكون الاستقلال المطلق الذي يمكنهم من الحصول على كل شيء كون الإرادة الإلهية هي التي تتحكم في البسط والتقدير حسب المنافع التي يعلمها الله تعالى والتي ذكرها بقوله: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) الشورى 27. والمعنى ظاهر في منطوق الآية أي لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، بما في كلمة البغي من مصاديق متفرعة عن أنواع الفساد، ولهذا السبب قيد تعالى الرزق بالمشيئة الإلهية التي فرعها على المنافع العامة، وقد أشار سبحانه إلى العلة من ذلك في قوله: (كلا إن الإنسان ليطغى... أن رآه استغنى) العلق 6- 7.
فإن قيل: وماذا عن الناس الذين يتمتعون بشتى أنواع الرزق إلا أن أعمالهم لا تنسجم مع المصلحة التي بينتها؟ أقول: للسنن الإلهية سنن أخرى حاكمة عليها إذا علمنا أن هذا الفعل لا يتطابق مع العبثية كون العامل فيه يرد إلى الابتلاء والاختبار لأجل أن تتم الحجة على الناس من خلال ما يسبغ عليهم سبحانه من النعم الظاهرة، وقد ذكر تعالى إحدى هذه السنن بقوله: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) التغابن 15. وبالإضافة إلى هذه السنة هناك سنة أخرى وهي سنة الاستدراج التي تحيق بصنف من الناس، دون أن يشعروا بالنتائج الخافية عليهم جراء ما يملكون من أموال، وقد أشار تعالى إلى هؤلاء بقوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) التوبة 55. وكما ترى فإن الأموال لا ترافقهم إلا لأجل مسمى وذلك نظراً إلى سوء اختيارهم ومن هنا وجه تعالى المخاطب إلى عدم مد عينيه إلى ما متع به هؤلاء من النعم، كما في قوله: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) طه 131. وقريب منه الحجر 88. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد... متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) آل عمران 196- 197.
وتأسيساً على ما تقدم نعلم أن الإرادة الإلهية قد تحول بين الإنسان وبين الحصول على النعم التي يسعى إليها وإن وجدت تلك النعم بطريق أو بآخر فإن مصيرها إلى الهلاك المتفرع عن الاستدراج، وهذا ما يستشف من التقييد الظاهر في قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) الإسراء 18. ثم قابل سبحانه هذا الصنف من الناس بأولئك الذين شكر سعيهم وذلك في قوله: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) الإسراء 19. فالآية الأولى قيدها تعالى بقوله: (لمن نريد) أما الثانية فقيدها بقوله: (وهو مؤمن) فتأمل الفرق.
من ذلك نفهم أن نعم الله تعالى لا تقتصر على المؤمن بل تمتد لتشمل الكافر إلا أن ما يتمتع به الأخير لا يعد إلا من المتاع القليل قياساً إلى ما يتمتع به المؤمن في الآخرة، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) النساء 77. وكذا قوله: (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) التوبة 38. وفي الآيتين ما يدل على أن النعم التي أسبغها الله تعالى على الكافر لا قيمة لها وذلك لقصر المدة التي يتمتع بها، ولولا انتشار الكفر وميل ضعيفي الإيمان إليه لوهب الله تعالى للكافر جميع أنواع النعم التي تفيض عن حاجته، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون... ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون... وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) الزخرف 33- 35. ومن هنا يجب ملاحظة الفرق بين الفريقين حيث إن انتفاع المؤمن بنعم الدنيا لا يقتصر على الاستقلال فيها وإنما يمتد ليتصل بنعيم الآخرة، أما تمتع الكافر فلا يخرج عن حدود الحياة الدنيا إذا علمنا أن الله تعالى سوف يضطره إلى عذاب النار.
وبناء على هذا الوجه نرى كيف أراد إبراهيم (عليه السلام) اقتصار الرزق على المؤمنين من أهل مكة إلا أن الله تعالى أجابه بما هو أعم من ذلك، أي إن عدل الله تعالى سوف يشمل المؤمن والكافر مع بعض التقييد الذي سنبينه في تفسير آية البحث.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126. يظهر من سياق الآية أن إبراهيم خص بدعائه المؤمنين ولكن الله تعالى أجابه بأن رزقه يشمل المؤمن والكافر إلا أن رزق الكافر مقيد بالمدة التي يعيشها في الأرض ولذا وصفه سبحانه بالمتاع القليل، والدليل على اقتصار إبراهيم في دعائه على المؤمنين يرجع إلى أمرين:
الأول: يتعلق بالعلم المسبق الذي يدل عليه قوله تعالى: (قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124. والإمامة من مصاديق الرزق المعنوي، ولهذا كان دعاؤه لا يتعدى إلى غير المؤمنين.
الثاني: لا يليق به الدعاء للكافر بأن يوسع الله سبحانه عليه بالرزق، بعد أن تبرأ من عمه عند علمه بكفره وقد بين تعالى هذا الوجه بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) التوبة 114.
فإن قيل: ما وجه الجمع بين قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) إبراهيم 35. الذي ورد فيه البلد بصيغة المعرفة وبين آية البحث التي نكر تعالى فيها البلد؟ أقول: الدعاء الوارد في آية البحث كان قبل السكن أما في آية سورة إبراهيم فكان بعد السكن، فتأمل ذلك بلطف.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
التعليقات