لندن- كتب بكر عويضه: ليل السبت الماضي أوى ناخبون كثر في بريطانيا للنوم حيارى بين أكبر حزبين في بريطانيا: المحافظون والعمال. صباح الأحد الموالي، حسمت جريمة «لندن بريدج» الأمر، قصمت ظهر حيرة كثيرين في دوائر الناخبين غير الحاسمين أمرهم، وبالتالي كان الطبيعي أن ترجح كفة حزب المحافظين بزعامة تيريزا ماي في انتخابات (الخميس) من دون أن يعني ذلك استبعاد مفاجآت اللحظة الأخيرة، بما فيها احتمال فوز العمال، أو أن توصل النتائج إلى ما يسميه ساسة بريطانيا «برلمان مُعلّق»، بمعنى فشل المحافظين والعمال في تحقيق أغلبية كاسحة تتيح لأي منهما تشكيل الحكومة، وبالتالي اضطرار أحدهما للتحالف مع حزب أصغر، الأرجح هو الحزب الليبرالي الديموقراطي، لتشكيل حكومة ائتلاف.
حيرة الناخبين لم تكن بلا سبب. كاد أن يتشكل شبه إجماع بين أغلب من تابع الحملة الانتخابية طوال الأسابيع الست الماضية، على ضعف حملة حزب المحافظين، وعلى استبعاد أن تشكل زعامة حزب العمال، بقيادة جيريمي كوربين، البديل الذي يلقى القبول. لقد عايشت ثماني انتخابات برلمانية في بريطانيا وتابعت تفاصيل معاركها عن قرب. كل انتخابات عامة، في بريطانيا، وغيرها، ترتدي ثوب مرحلتها، ويخوض الساسة معاركها وفق متطلبات تلك المرحلة.
والأغلب أن مُجايلّيَ من زملاء صحافة لندن العربية يتذكرون أنه منذ اكتسحت سيدة بريطانيا الحديدية، مارغريت ثاتشر انتخابات الثالث من مايو 1979 اتسمت المعارك الانتخابية بحدة التراشق السياسي بين حزبي المحافظين والعمال. بقي الأمر على هذا النحو حتى بعد انتقال زعامة المحافظين إلى جون ميجور، ثم بعد فوز طوني بلير الكاسح، أيضاً، في انتخابات أول مايو 1997. كان لذلك الانقلاب في مزاج الناخب البريطاني تفسيره المهم آنذاك.
أرادت الأغلبية، أن تقول «لا» واضحة ومدوّية لاستفراد حزب محدد بالحكم أكثر من ثلاث ولايات انتخابية متتالية، وهو ما سيحصل لاحقاً مع حزب العمال. فرغم أن انتخابات 2001 أعطت بلير ولاية ثانية مكنته من أخذ بريطانيا إلى مستنقع حرب العراق إلى جانب الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في إبريل 2003، فقد دفع العمال بزعامة غوردون براون الثمن الانتخابي لتلك الحرب رغم كسب انتخابات2005 والاستمرار في «10 داوننغ ستريت» خمس سنوات صعبة، انتهت بفوز المحافظين في انتخابات 2010 ولكن بلا أغلبية كاسحة.
ولأن الحزب الليبرالي الديموقراطي كان بدأ يكتسب شعبية بقيادة نِك كليغ، وتأكد حضوره البارز من خلال الفوز بعدد ملحوظ من المقاعد في ميدان المعركة الانتخابية، اضطر المحافظون، بزعامة ديفيد كاميرون، للتحالف مع الليبراليين في تشكيل حكومة استمرت حتى انتخابات 2015، التي حقق فيها المحافظون أغلبية كاسحة، بينما خسر الليبراليون بزعامة كليغ لسببين، أولهما قبول التحالف مع المحافظين، وثانيهما الإخلال بوعد انتخابي يخص عدم زيادة رسوم التعليم الجامعي.
الحيرة التي أشرت إليها، كنتُ أحد الواقعين في شراكها. فرغم أنني مارست الانتخاب ست مرات، منذ اكتسبت حق التصويت، وفي كل مرة كنت أعرف لمن سأقترع، اختلف الأمر هذه المرة، وكنت حتى وقوع إرهاب مجزرة «لندن بريدج» أرجح احتمال الامتناع عن التصويت، أو إعطاء صوتي للحزب الليبرالي. سبب ذلك، أنني كنت مثل ناخبين وناخبات كثر غيري، عبّروا بصريح العبارة عبر قنوات التلفزيون والإذاعات عن عدم اقتناعهم بزعامة كلٍ من تيريزا ماي وجيريمي كوربين.
بين هؤلاء وأولئك موالون لكلا الحزبين، العمال والمحافظين. لكن مجزرة «لندن بريدج» قلبت موازين كثيرة. يضاف إليها فشل كوربين في طمأنة أغلب الناخبين عندما تردد في آخر مناظرة مع النجم الإذاعي اللامع ديفيد ديمبلبي، في حسم موقفه من مسألة استخدام السلاح النووي كرادع في حال تعرض بلده لهكذا خطر.
واضح أن أهم ما يميّز انتخابات الخميس 8/6/2017 عن سابقاتها من الانتخابات البرلمانية في بريطانيا، أنها أول معركة برلمانية بعد تصويت 52 بالمائة مع الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) مقابل 48 بالمائة صوتوا لصالح البقاء، في استفتاء يونيو 2016. معنى هذا أن البلد منقسم. عندما فاجأت تيريزا ماي الجميع، حتى داخل حزب المحافظين، في التاسع عشر من ابريل الماضي، بدعوتها الى انتخابات عامة كان واضحاً أنها تسعى للحصول على أغلبية كاسحة تعطيها ما يمكن القول إنه شرعيتها الخاصة بها، لا الشرعية التي ورثتها من سَلفها ديفيد كاميرون، عندما استقال العام الماضي لأنه خسر حملة البقاء داخل الاتحاد الأوروبي. وهو إجراء لم يكن كاميرون مضطراً إليه.
وحتى إعلان برنامجها الانتخابي (المانفيستو) كانت السيدة ماي تبدو ضامنة الفوز بما تسعى إليه، لكن ما تضمنه برنامجها من بنود مست بشكل سلبي جوانب تتعلق بالرعاية الاجتماعية لكبار السن، بالإضافة إلى إلغاء وجبات مجانية لتلاميذ المدارس، أدى إلى تراجع شعبيتها، رغم أنها تراجعت عن موقفها في شأن الرعاية الاجتماعية. جريمة «لندن بريدج» ليل السبت الماضي قلبت الموازين مجدداً.
على بعد مائتين وخمسين متراً من مسرح المجزرة الإرهابية، يتوافد سياح كثيرون، إلى جانب البريطانيين بالطبع، على مطعم ومشْرَب «جورج إنْ» الضارب الجذور في ذاكرة نهر «التيمز» لأكثر من أربعمائة سنة، فهناك كان يجلس ويليام شكسبير، يحتسي شرابه ويتناول وجباته.
لندن شكسبير المنتصرة على إرهاب «الجيش الجمهوري الآيرلندي»، سوف تهزم إرهاب «داعش» طال الزمن، أو قصر.
التعليقات