وهو يكتب"مقدمته" الشهيرة في قلعة بني سلامه في المغرب الأوسط (الجزائر اليوم)، بدأ إبن خلدون الذي كان قد تجاوز آنذاك سنّ الأربعين، يعاين أن الحضارة العربيّة -الإسلاميّة أوشكت على الإنهيار والسقوط، شأنها في ذلك شأن كلّ الحضارت الكبيرة التي سبقتها. ومن هذه الحقيقة التي أثبتها التاريخ في حقب وفي أماكن مختلفة، إستنتج أن الحضارات مثل كلّ كائن بشري تولد، وتكبر، ويعظم شأنها، ثمّ تتهاوى وتموت. وإنطلاقا من القرن التاسع عشر، شرع فلاسفة وشعراء ومفكرون يظهرون إستياءهم وتبرمهم من الحضارة الغربية. وأغلبهم أعلنوا أن إنهيارها أمر حتمي. فقد تحدث الفرنسي توكفيل الذي مجّد الديمقراطية معتبرا إيّاها أفضل نظام سياسيّ بلغته البشرية في تاريخها عن إحساسه بإن "عالما يتهاوى". ولم يكن هذا العالم غير أوروبا العجوز. ودقّ الفيلسوف الدانماركي سورن كيركغارد ناقوس الخطر مُعْلنا أن الجانب المادّي والنّفعي تغلّب على الجانب الروحاني في الحضارة الغربية. لذا سيكون السقوط مآل هذه الحضارة. وهذا السقوط شغل أيضا المجريّ ماكس نوردو الذي كان يعيش في باريس في أواخر القرن التاسع عشر فتأثر به كتاب ومفكرون تحدثوا هم أيضا عن بوادر الإنحلال في الحضارة الغربية، وعن الأزمات التي تقرّضها من الداخل. وقد اعتبر ماكس نوردو أن التقدم الصناعي السريع والمحموم أحدث عطبا في النسيج الإجتماعي والروحاني، وحوّل الناس إلى حيوانات متوحشة تتقاتل من أجل المزيد من الترف المادي. وتحت تأثير مثل هذه الأفكار، شبّه الروائيّ الفرنسي إميل زولا الحداثة الغربية ب"قطار يسير بسرعة جنونية من دون سائق". وفي النهاية لن تكون هناك سوى دماء الأبرياء مسفوحة على الطريق. ولم يكن نيتشه رحيما بالحضارة الغربية. ففي مجمل مؤلفاته أبرزها في صورة بشعة. إلاّ أنّ أشهر من كتبوا عن سقوط الحضارة الغربية هو الألماني أوزوالد شبينغلرصاحب كتاب:”تدهور الحضارة الغربية" الذي حظى بشهرة واسعة في العشرينات من القرن الماضي،أي عندما كانت أوروبا تدواي جراح الحرب الكونية الأولى. ومثل إبن خلدون شبه أوزوالد شبينغلر الحضارت بمصير الإنسان... وخلال القرن العشرين، لم ينقطع البعض من المفكرين والشعراء والكتاب عن التلويح بالسقوط الوشيك للحضارة الغربية. من أشهر هؤلاء يمكن أن نذكر الألماني هرمان هسه، والبريطاني هايش، جي، ويلز، والنمساوي كارل كراوس الذي كتب في نصه الشهير"الأيام الأخيرة للإنسانية" الصادر عام 1922 يقول:”لقد قرّرنا إستئصال كوكبكم وأيضا كلّ الجبهات وكلّ هذا الدّود الأرضيّ المغرور الذي يتباهى بالتأهّب للإغارة على الكواكب".

وها الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري الذي قفز إلى الواجهة الفكرية والفلسفية بعد صدور كتابه الذي "فضح فيه أكاذيب فرويد"، يطلع علينا بكتاب مطلع الألفية الجديدة، يعلن فيه عن إقتراب إنقراض الحضارة الغربيّة. وقد صدرهذا الكتاب الذي حمل عنوان"تدهور"(750 صفحة) عن دار "فلاماريون" مطلع العام الحالي. وهو يعكس سعة اطلاع صاحبه على مجمل المعارف الإنسانيّة في مختلف العصور، وعلى إلمام واسع بالتاريخ، وبالعلم الأديان. وفيه يقفز من زمن المسيح إلى داعش مرورا بالحروب الصليبية، ومن فلاسفة الرومان إلى فلاسفة العصر الحديث مرورا بفلاسفة القرون الوسطى وعصر الأنوار... وتبدو أوروبا من خلال هذه الكتاب كما لو أنها حقل من الخرائب. أما الحضارة اليهودية-المسيحية فهي تترنح في إنتظار سقوطها المدوي. ويرى ميشال أونفري أنه ليس بالإمكان فعل أيّ شي لهذه الحضارة التي تموت. وهو يضيف قائلا بإن رؤية أزوالد شبينغلر للتدهور كانت"جامدة"، و"منهجيّة". أما رؤيته هو ف"متحركة"، و"حيّة". كما أنها ليست لا رؤية يمينية، ولا يسارية. فأصحاب الرؤية اليمينية يظهرون تشاؤما من الحاضر.لذا هم يعتقدون أن الخلاص لا يتمّ إلاّ بالعودة إلى الماضي المجيد.ولا ينشغل أصحاب الرؤية اليسارية إلاّ بالمستقبل. لذا هم متفائلون أبدا. وأما هو فلا هو متفائل ولا متشائم، وإنما "تراجيديّ”.

والعدمية هي في رأي ميشال أونفري من العوارض الخطيرة ل"التدهور" الذي يتحدث عنه. فالغربيّون لم يعودوا يعنون بالقضايا الكبيرة المتصلة بوجودهم. لذا هم يعيشون حياتهم يوما بيوم ما دام لم يعد هناك ما يلفت تظرهم،أو يثير فضولهم. ثم أنهم -أي الغربيون-تقوْقعوا على أنفسهم، وفقدوا تلك النظرة البانورامية التي كانوا يمتلكونها عن العالم خصوصا خلال فترة الإمبراطوريات الإستعمارية عندما كانوا يتحكمون سياسيا واقتصاديا في مصير الأمم والشعوب، وعليها يفرضون رؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم، وحتى أحلامهم. و"إنتصار السلبية" بحسب تعبير الماركيز دو ساد من العوارض الأخرى. فالغربيون فقدوا الرغبة في المغامرة التي تميّزوا بها في فترة صعودهم الحضاري، عندما كانت لهم القدرة على اكتشاف المجهول. أما الآن فجلّ مغامراتهم تقتصر على السفرات السياحيّة. ولم تعد للفلسفة الغربية نفس التأثير في النخب وفي المجتعات كما كان حالها في الماضي. وراهنا هي تموت في قاعات الدروس في المعاهد وفي الجامعات، وفي الحلقات الضيقة التي تطغى عليها الثرثرة، ويخيم عليها "دخان المفاهيم الغامضة"، وعنها يغيب الخطاب الأصيل، والفكرة النادرة القادرة على اختراق المكان والزمان. ويعتقد ميشال أونفري أن تدهور الحضارة الغربية بدأ مع تردّد الدول الغربية في مساندة سلمان رشدي بعد أن أطلق الخميني دعوة تبيح قتله. فقد عكس هذه التردّد عجز الغرب عن الدفاع عن المبادئ والقيم التي نهضت عليها حضارته.

وفي كتابه، يشير ميشال أونفري إلى المسيحية والإسلام كانا دائما وأبدا في صراع دائم. حتى الفترات القليلة التي وسمها الهدوء والتسامح ، لم تخلو من مشاعر الريبة والحذر من هذ الجانب وذاك. وهو يرى أن الإسلام برز منذ البداية كدين يطمح إلى الإنتشار على مستوى كوني. ولا تزال الحروب بينه وبين المسيحية قائمة إلى حد اليوم. وهذا ما يفسر استفحال العمليات الإرهابية التي استهدفت، ولا تزال تستهدف جميع الدول الغربية من دون إستثناء.ورغم أن الغرب يمتلك قدرات عسكرية هائلة ومدمرة، إلاّ أن المسيحية لا تمتلك النزعة الدفاعية التي كانت تمتلكها في الماضي. أما الإسلام فله متعصبون وجهاديون مستعدون للموت من أجل الدفاع عنه في أيّة لحظة. وأغلب هؤلاء من الطاقات الشابة المتحسة للقتال والتي تعتقد أن الإسلام لا يزال قادرا على أن يقدم ما يساعد لا المسلمين وحدهم، وإنما البشرية جمعاء على تجاوزالأزمات ومواجهة الكوارث والمصائب.ويكتب ميشال أونفري قائلا:”لقد هيمنت الحضارة اليهودية -المسيحيّة على مدى ما يقارب الألفي سنة. وهي مدة زمنيّة مُشرّفة بالنسبة لأيّ حضارة. والحضارة التي ستقوم مقامها ستعوضها هي أيضا حضارة أخرى. مسألة وقت فقط. الباخرة تغرق.ولم يتبقّ لنا سوى أن نغرق بأناقة ورشاقة"...