الغرب صنع داعش، كل الشرور تأتي من هناك حيث المستعمر الذي استوطن على كرهنا، ويخلق مشكلاتنا كافة... تنصل سهل من المسؤولية؛ الآخر هو السبب، أما نحن فالضحايا الذين لا يمتلكون الخيار، وعلى ذاك المستعمر القديم أن يخلصنا من شروره، وسيبقى عدونا، وبقية الاعداء مثل داعش وجه من وجوهه.
فضلا عن سهولة هذه العملية باعتبارها تنصلا عن المسؤولية، هي أيضا تبرئة نرجسية للجماعة التي ننتمي لها من أي تبعات، باعتبارها منزهة عن الجنايات، الا من بعض الاخطاء والضعف أمام جبروت الاخرين. وهناك جناية وحيدة اعتدنا على اتهام بعضنا بها، هي العمالة. إنها أيضاً موجهة الى الاخر، فالجناة الداخليون اشخاص مرتبطون بالاجنبي.
وعندما تعالت الاصوات ضد الاعداء الداخليين، وتحديدا الانظمة الدكتاتورية، كان يمكن أن يُفهم على أنه تغيير الثقافة السائدة المصابة بلوثة الارتياب من الخارج فقط. الا أن الامر لم يكن سوى صحوة مؤقتة، عاد الوضع مجددا الى التعامل مع العدو الداخلي على أنه ممثل للشيطان الكبير في الخارج. نحن لا نستطيع ان نتخيل الشر الداخلي بمعزل عن الشر المطلق الموجود في الخارج.&&
الان داعش، وقبلها قاعدة الزرقاوي وقاعدة ابن لادن وطالبان... لا ينظر لها من قبل الثقافة الاسلامية الريبية كمخلوقات اسلامية ولا عربية، انما زراعة امريكية في جسد ضعيف قابل لأن يتقبل مثل هذا الزرع. اقصى ما يمكن الاعتراف به من مسؤولية؛ الضعف والقابلية على الاستسلام. فهناك خلط بين حالة اللا مبالاة الغربية والامريكية تجاه الاوضاع في الشرق الاوسط، او محاولة المحافظة على الفوضى والتوتر بحدود معينة لضمان المصالح، وبين ان تكون هذه المصالح هي التي تصنع كل كوارث المنطقة.
الغرب منذ عقود يحافظ على مصالحه من خلال دعم واستثمار التخلف وفقدان التنمية في هذه المنطقة، ومؤخرا عبر استثمار ثقافة انتاج الكراهية في البلدان الاسلامية... غير أن الانتاج وليد الذهنية والعقيدة والثقافة السائدة، ولا يحتاج "العدو الخارجي" الى جهد كبير لتنميتها كي تتخذ شكلا عنيفا، بل احيانا لا يستدعي الامر أي دور وجهد. هي حالة تفاعل داخلي وليدة عداءات وأحقاد تاريخية وفقدان البوصلة الاخلاقية لدى الشعوب والنخب الاسلامية، لأن بوصلتها الوحيدة تعود لرؤية مغرورة تنطلق من فكرة الفرقة الناجية المؤثرة في أوساط المتدينين وحتى في اوساط غير المتدينين لأنهم جزء من منهج التفكير السائدة. والمنهج هنا يعتمد امتلاك الحق المطلق مقابل باطل مطلق، والحق مقدس، والباطل يجب أن يستأصل، فيولد خطاب الاقصاء التام الذي يصنع أدوات عنيفة لمحو الاغيار.
"الولايات المتحدة هي التي فجرت برجيها" هذا ما يقوله كثير من المسلمين والعرب، لأنهم غير قادرين على تخيّل كمية الجريمة التي يكون عليها انسان مؤمن بدينه وملتزم به كأسامة بن لادن. النخب الاكثر وعياً طورت الخطاب، لترى ان هذه نتيجة طبيعية لخلق تنظيم القاعدة في افغانستان خلال الحرب السوفيتية. وهم بذلك لا يميزون بين حصول الافغان العرب على الدعم الامريكي والغربي، وبين أن يكونون صناعة امريكية. ما حصل هو أن الغضب الديني المواجه للشيوعية في افغانستان استقطب كل المعارضين لوجود "الشيوعية الكافرة"، وما قامت به الولايات المتحدة هو أنها سهلت المهمة للاستفادة من ذلك في الحرب الباردة.
الزرقاوي ايضا ليس صنعية امريكية، انما هو جزء من نتائج صعود المد الديني الذي ساعد عليه نظام البعث السابق بالحملة الايمانية بدءا من عام 1994، ثم الترويج لخطاب "المقاومة" العربي الذي دفع بالمئات او الالاف من كارهي امريكا الى العراق ليتحولوا الى وقود تنظيم القاعدة المسنود بعقيدة قتل كل مختلف ومخالف. وداعش كذلك لم يوجدها الغرب لإسقاط النظام السوري، انما نتيجة طبيعية لعدة عوامل: مثل صعود السلفية في سوريا منذ بدايات القرن، ثم تنمية هذا المد الممتزج بالعداء القومي والديني ضد الغرب، لتجنيد المئات من "المجاهدين" الذين ارسلوا الى العراق عبر الحدود السورية وذلك بعد ان شعر النظام بأنه الهدف القادم بعد النظام العراقي السابق، ومثل تفجر الصراع الطائفي، وكذلك استثمار تركيا وقطر للاوضاع لدعم وغلبة التيار المتطرف...
في هذه القضايا وامثالها يتم اغفال تلك الاسباب المتعددة الواقفة خلف التشوّه، ويُكتفى بإدانة العدو العالمي الكبير، لأن الامر سهل وغير مكلف. فضلا عن العوامل السياسية الواقفة وراء الترويج للاتهامات. مثلا ان& تصاعد اتهام الدعم الامريكي لداعش في العراق خصوصا خلال الايام القليلة الماضية، تقف خلفه ايران لاعتبارات سياسية تتصل بالصراع في العراق وسوريا.
ان الهروب من مواجهة الاسباب المتعددة لوجود العنف والتطرف الديني وعلى رأسه داعش سيؤدي بالضرورة الى بقاء الارضية والاسباب، حتى وان سقطت خلافة البغدادي. سوف تظل الامور مؤهلة لظهور مزيد من التنظيمات المشوهة والعقائد المجنونة. فمعالجة الامور بشكل جذري لا يمكن أن يعتمد على اتهامات سياسية اقليمية او عقائدية نرجسية للغرب بانه صانع التطرف الديني، بل يحتاج الى مواجهة العوامل الحقيقية، ومنها العوامل العقائدية. والامر لا يقتصر على السلفية كما قد تروج المذاهب الدينية الاخرى في المنطقة، فهناك أرضية لظهور التطرف في أي اتجاه ديني داخل العالم الاسلامي، مهما بدا في الوقت الحاضر معتدلا او مرنا وبشوشا.
&
التعليقات