تحدثت في مقالات سابقة عن استقواء القيادة القطرية بالدعم الإيراني والتركي ورفض الاستجابة لمطالب الدول المقاطعة والعودة للصواب، أو على الأقل مراجعة موقفها الاستراتيجي ومنح نفسها فرصة اكتشاف الأخطاء التي ارتكبتها بحق الشعب القطري اولاً ثم بقية الشعوب الخليجية والعربية ثانياً.
الملاحظ منذ بداية الأزمة أن ملالي إيران قد وجدوا في السلوك القطري فرصة ثمينة لتحقيق بعض أهدافهم وأحلامهم التي فشلوا في تحقيقها منذ سنوات وعقود مضت؛ حيث يسعى الملالي منذ قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مايو 1981 إلى أفشال هذه المنظومة والعمل على تقويض أسسها وركائزها تارة عبر الوقيعة بين الأعضاء الست، أو استقطاب بعض هؤلاء الأعضاء للصف الإيراني وتحريضهم على الخروج من المنظومة الخليجية، أو على أقل التقديرات دفعهم لتجميد أو "تبريد" عضويتهم من أجل الحد من فاعلية المجلس وتأثيره الاستراتيجي ككتلة معبرة عن إرادة دول وشعوب مجلس التعاون.
وظلت إيران تسعى إلى "نسف" منظومة مجلس التعاون وإحلال بديل تدعو إليه يضمها مع دول مجلس التعاون كبديل لهذا المجلس، ولكن باءت كل محاولاتها بالفشل ولم يكن لضغوطها ومحاولاتها لاستقطاب بعض دول المجلس إلى صفها بشكل غير معلن، تأثير واضح أو مؤكد.
هذا التحليل كان أقرب إلى الصواب حتى الأزمة الراهنة مع قطر، التي خرجت فيها القيادة القطرية من مربع المراوحة بين الموالاة لملالي إيران والالتزام باستحقاقات عضوية الدولة القطرية في منظومة مجلس
التعاون، خرجت فيها من هذا المربع إلى مربع الميل والانحياز السافر والمعلن للدفاع عن الملالي وإعلان التبعية لهم، لاسيما بعد التسريبات التي تحدث فيها أمير قطر السابق عن رؤيته وتصوراته الغريبة بشأن مصادر التهديد والخطر التي تتعرض لها قطر، فأشار إلى دول مجلس التعاون لا إيران!
وجد الملالي من جانبهم في النظام القطري "مخلب القط" أو معول الهدم الملائم للانقضاض على منظومة مجلس التعاون، فاتخذوه "حصان طراودة" لمحاولة اختراق جدار هذه المنظومة تمهيداً لتقويضها عبر خروج العضو القطري، سواء بالانسحاب أو بإخراجها من جانب بقية الأعضاء أو تجميد عضويتها أو أي بديل آخر يسهم في تحقيق الحلم الإيراني المزمن بشأن إبطال مفعول مجلس التعاون، وإلحاقه ببقية منظومات العمل العربي المشترك، التي لاقت حتفها تاريخياً سواء بالاختفاء من الوجود كما حدث في بعض التكتلات الوحدوية العربية، أو الإصابة بالموت الإكلينيكي وانهيار الفاعلية الاستراتيجية كما في حالات عمل جماعي عربي أخرى.
التقت الإرادتان، القطرية والإيرانية، على الكيد لدول مجلس التعاون، فكان للملالي ما أرادوا وقدمت لهم القيادة القطرية ما يتمنون من طعن في مجلس التعاون، عبر انشقاق قطر فعلياً عن الصف الجماعي، والتمرد على البيت الخليجي الجامع للأشقاء، والتقط الملالي طرف الخيط فشجوا قطر وقدموا لها كل التسهيلات للمضي في هذا المسار الموحش، فكانت المساعدات الغذائية وفتحت الموانىء الإيرانية وقدمت عناصر الحراسة الأمنية للأسرة القطرية المالكة، أي تم توفير السبل اللازمة لحفز القيادة القطرية على مواصلة مشوار التمرد والعناد والمكابرة.
من الناحية الاستراتيجية، لا أنكر أن لقطر مصالح استراتيجية بالغة الحيوية مع إيران، لاسيما فيما يتعلق بالغاز، ولكن من قال إن بقية دول مجلس التعاون لا تمتلك مصالح استراتيجية مع إيران حتى نلتمس لقطر
العذر فيما ذهبت إليه من موالاة لإيران على حساب دول مجلس التعاون؟ تتذرع قطر بأنها لا تحتل مرتبة متقدمة في التبادل التجاري بين دول مجلس التعاون الست وإيران، وتحاول الزعم بأن الآخرين يتبادلون تجارياً ومصالحياً مع إيران ويرغبون في إحداث قطيعة بينها وبين طهران، وهذا غير صحيح ولا دقيق بالمرة، فالصحيح في الأمر أن قطر ليست الأولى بالفعل من ناحية التبادل التجاري بين إيران ودول مجلس التعاون، ولكن من قال أيضاً أن هذه الدول تريد من قطر وقف تبادلها التجاري مع إيران؟ هذا خلط للأوراق وقول باطل، فالمطلوب من القيادة القطرية هو وقف التآمر، لا التعامل التجاري، مع إيران ضد مصالح دول مجلس التعاون.
أن يكون لقطر تبادل تجاري مع إيران، فهذا لن يضر دول التعاون أو غيرها طالما كان ضمن الأطر والقوانين والالتزامات الدولية، ولكن ما يضر دول مجلس التعاون هو العمل في الخفاء وتدبير المؤامرات ضد دول مجلس التعاون، إذ كيف تنخرط قطر بشكل معلن ضمن التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن ثم تتجسس على قوات دول التحالف وتسرب معلومات دقيقة حول مواقع تمركز تلك القوات لحلفاء إيران من ميلشيات الحوثي والمخلوع صالح بحيث يتمكن هؤلاء الأوغاد من سفك دماء مقاتلين خليجيين شرفاء بتآمر أشقائهم القطريين؟ ثم كيف تزعم قطر تبني أجندة مجلس التعاون على صعيد محاربة الإرهاب ثم تقوم بتمويل تنظيمات وميلشيات طائفية إرهابية في العراق وسوريا؟ وكيف تدعي قطر الاصطفاف مع دول مجلس التعاون وتبني رؤية مشتركة للدفاع عن مصالح ومكتسبات شعوب دول المجلس ضد أي تهديد وأطماع خارجية ثم تتحالف مع إيران وتفتح لها الباب وتزعم أنها لا تمثل مصدر تهديد لدول مجلس التعاون؟
لا شك أن الملالي قد وجدوا في القيادة القطرية أداة "مثالية" لشق الصف الخليجي ومحاولة تقويض مجلس التعاون، ولم تكن تكلفة ذلك كبيرة، بل مجرد تصريحات داعمة وبعض سفن المساعدات وعناصر الحماية التابعة
للحرس الثوري، التي تقوم بحماية مقرات الأسرة الحاكمة ضد أي غضب شعبي محتمل!
ألم يسأل أمير قطر نفسه: إلى متى يمكن ان يستمر الدعم الإيراني لقطر؟ وهل يمكن الاعتماد على صدق الملالي؟ البديهي من الناحية الاستراتيجية أن تشعر القيادة القطرية بتوجس شديد حيال إمكانية ابتلاع ثروات قطر الطبيعية من الغاز بمعرفة إيران ذاتها في حال وثق الملالي من قطع الخيوط تماماً بين قطر وأشقائها في دول مجلس التعاون، وهذا أمر وارد ومحتمل بدرجة عالية، ولكن منذ متى تضع القيادة القطرية مصالح ومكتسبات الشعب القطري ضمن حساباتها؟ الأمر الأهم عند الأمير تميم ومستشاروه ورفاقه قادة تنظيمات الإرهاب، هو مصالحهم الذاتية، حتى لو كان الثمن والمقابل تدمير مستقبل الشعب القطري!!
التعليقات