لو تآمر جلادو العالم وحكامه الساديون جميعاً على المواطن العراقي لما تمكنوا من تعذيبه كما يتعذب الآن في حياته اليومية. فالعراقي ميت يمشي ، وهو يمشي على أرصفة مطرزة بالحفر إن وجدت أرصفة أصلا. وإذا أراد ان يعبر الشارع عليه ان يرمي نفسه أمام السيارات لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لإجبار سائقيها على التوقف والسماح له بالعبور الى الجانب الآخر.
العراقي يئس من وعود السياسيين والمسؤولين البيروقراطيين بتوفير خدمة مثل الكهرباء باتت بديهية حتى في مجاهل افريقيا. والمولدات الأهلية تستنزف دخل من لديهم مصدر رزق ثابت فيما يبقى المسحوقون تحت رحمة "الوطنية" إذا تفضلت عليهم بساعة أو ساعتين في قيظ الصيف وزمهرير الشتاء.
العراقي اليوم لا يقرب من ماء الحنفية لأن ما يخرج منها وصفة مؤكدة للإسهال أو ما هو أخطر. وعملا بمبدأ المساواة حرص المسؤولون على إزالة الفوارق بين ماء المجاري وماء الشرب بحيث لم يعد التمييز بينهما ممكناً. وما يأتي الى بيت العراقي الآن لا يمت بصلة الى الماء الصالح للاستهلاك البشري كما يعرفه العالم.
وإذا حكم نكد الحظ على العراقي أن يراجع دائرة رسمية فعليه ان يملأ جيوبه بالأوراق النقدية من كل الفئات ليوزعها على الموظفين المرتشين من أصغر كاتب الى المدير الذي تنتهي معاملة المواطن على مكتبه. وتصل الصلافة ببعض الموظفين الى حد الاحتجاج على قلة الرشوة والمطالبة بزيادتها. وهو عادة يُبقي أحد أدراج مكتبه مفتوحاً لتُلقى الرشوة فيه من باب التعفف عن تسلمها باليد. ويا ليت الفساد يقتصر على موظفي الجهاز الإداري. فهو متفشٍ في كل مفاصل الدولة بما فيها مؤسسات التعليم العالي حيث يجب ان تبحث عن النزاهة الأكاديمية بالمجهر لتعثر عليها لدى قلة من الصامدين للحفاظ على شرف المهنة. ولم يعد من المستغرب أن تجد استاذاً يحارب الطالب بسبب انتمائه المذهبي أو يبتزه مهدداً بتدمير مستقبله ما لم يدفع له رشوة.
والويل للعراقي إذا خارت مناعته أمام فساد جهاز الدولة وتلوث الماء والهواء وتعين عليه ان يراجع المستشفى بسبب المرض. فالأرجح أن يدوس الطبيب على قَسَم مهنته الانسانية ويمتنع عن علاج مواطنه الذي لجأ اليه ، ناصحاً إياه ان يراجعه في عيادته الخاصة. وفي العيادة يبدأ ابتزاز من نوع آخر ، بمعاينة غالية الثمن من المحتم أن تقترن بإرسال المريض الى الأشعة ثم الى المختبر دون وجود حاجة حقيقية لذلك بل الهدف الوحيد هو إفراغ جيب المريض من آخر دينار عنده. وكثيراً ما يسمع المريض من الطبيب ان الدواء الذي وصفه له لا يوجد إلا في الصيدلية الفلانية لأن الطبيب يكون في احيان كثيرة متواطئاً مع الصيدلي بإرسال المريض اليه وتقاسم الغنيمة فيما بعد. وما يُقال عن الطبيب الذي خان رسالته الانسانية والاكاديمي الذي تنكر لمهمته التربوية يصح على نظيرهما
المحامي والمقاول ورجل الأمن ، الخ ما عدا فئة من ذوي الضمائر الحية الذين ينظر اليهم الفاسدون بازدراء ويعدونهم مغفلين. وإذا كانت هذه هي أخلاق الغالبية من افراد الشرائح المهنية فهل ثمة عتب على الموظف الصغير؟
في المساء ترى اطفالا متسولين يتقافزون بين السيارات لمسح زجاجها مقابل صَدَقة عادة لا تُعطى لأن السائق يهرب ما ان تخف زحمة المرور. وكشف باحث اجتماعي ان عصابات تأخذ فتيات من دور الأيتام للتسول في النهار واجبارهن على بيع اجسادهن الغضة في الليل.
في بغداد هناك محلات لبيع الخمور المهربة وملاهٍ ليلية ومواخير. ومن الأسرار المكشوفة انها كلها تعمل بحماية احزاب دينية وميليشيات تتقاضى نسبة من ايراداتها. أما صاحب محل بيع المشروبات الكحولية بإجازة رسمية فيُقتل بدعوى التقوى والحرام.
الحياة الثقافية ميتة عملياً باستثناء جزر مثل شارع المتنبي يوم الجمعة وبعض المنتديات الأدبية وسط بحر من التخلف والخرافة والنفاق. ويتبدى وضع الثقافة بأسطع أشكاله حين يجتمع سمامسرة السياسة لتقاسم الحقائب الوزارية حيث تكون وزارة الثقافة منبوذة يدفعها كل طرف نحو الطرف الآخر والحزب الذي تؤول اليه وزارة الثقافة يشعر بالغبن لأنه أُعطي وزارة نافلة في عراق الاسلام السياسي.
المواطن العراقي لا يعرف اليوم إذا كان طفله سيعود من المدرسة أم يتعرض الى الخطف والقتل للمتاجرة بأعضائه.
هذا الدمار في كل ناحية من نواحي الحياة ، على خلفية سنوات من الحروب والحصار ، جعل العراقي لا يكترث إذا قُتل بعبوة أو قذيفة أو رصاصة أو صاعقة أو علة. ففي ذلك خلاصه من عذاب متواصل وجحيم لا ينتهي وصراع يومي من أجل أبسط مقومات الحياة.
المواطن العراقي اليوم ميت يمشي في نفق مظلم دون ان يرى بصيص ضوء في نهايته. وكما قال احدهم ، إذا كان هناك ضوء في نهاية النفق فهو ضوء قطار مندفع نحوك سيمر فوقك ليهرس جسدك المضعضع وروحك الملتاعة. إنه قطار السياسيين من اقطاب الأحزاب المهيمنة. فهم في سباق مع الزمن على نهب البلد قبل ان تنضب ثرواته وبالتالي معذورون لإنشغالهم بقضايا استراتيجية كبرى مثل تقاسم كعكة الحكم وما يقترن بها من سطوة وإثراء ، ولا وقت عندهم لصغائر مثل توفير الأمن والخدمات ومعالجة البطالة وإعمار البنى التحتية وتأمين العلاج وحفظ كرامة المواطن من العوز والجوع والفاقة. فالعهر السياسي في العراق لا يقل عن العهر المحمي بالميليشيات.
نعمة الأمن معدومة ، الحياة الكريمة ممنوعة ، العافية بعيدة المنال ، والخدمات الأساسية حلم أبعد. فهل يُلام العراقي إذا اصبح ميتاً يمشي وسط هذا الخراب العميم ، لا تعينه على الاستمرار إلا غريزة البقاء؟