لا مِراء أن إشاعة الأماني بين الناس ليس بخطأ، إلاّ أن نصب أوتاد الضلال على ضفاف الأقحافِ شاخصة تقود الأبرياء نحو مجاهل السراب، ومن ثم المضي صوب الهاوية على أنغام ناي المخادع، وهذا إن لم يدفع مبذر الأضاليل إلى تحمُّل وزر ما اقترفه من بث الضلالات في تربة الأبرياء، فعلى الأقل على من عاين الوقائع بعيون العدل والإنصاف أن يُعري كل من يساهم في تشويه وعي الناس ويقودهم إلى حقولٍ لا ينبت فيها إلاّ الأشواك والفخاخ. 

وأمام هذه الثنائية المتضادة فعلينا كما نتذكر بالعادة وجوه مَن يعملون على خداع الناس ويقتادونهم صوب المهالك، أن لا ننسى أيضاً مَن كانوا بخلاف ذلك، وبالتالي نتذكُّر إحسان مَن كان مستشرفاً ما ستؤول إليه الأوضاع قبل حدوثها بسنوات، ومَن كان منظاره يجاهد بألاّ يعمل على تشويش الحقيقة أو تغييبها،ومنهم على سبيل الذكر الباحث السوري إبراهيم محمود الذي ألّف قبل بدء الحراك الثوري في سوريا بعدة سنوات كتاباً تحت عنوان "الحنين إلى الاستعمار" حيث أبرز الباحث في كتابه أثر الاستعمار في الارتقاء بالوعي، ودوره في استنهاض القيم المعرفية في مجتمعاتنا، وإيضاح قيم التسامح والتصالح التي بثها ذلك الذي يُسمى بالمستعمر بينمختلف فئات المُجتمع، كما أشار الباحث في كتابه إلىأن الاستعمار الغربي كان بمثابة نافذة للحرية طال انتظارها من قبل شعوب المنطقة التائقة إلى تلك النسائم.

وحقيقةً فبعد مرور أكثر من سبع سنوات على إندلاع الثورة السورية، ومن خلال الوقائع والمجريات اليومية،ففي دخيلة نفس الكثير من المواطنين السوريين المتصالحين مع أنفسهم حنين خفي للاستعمار، وكذلكيراود نفس الشعور كل من فقد الأمل بأي تغيير حقيقي مفيد في سوريا، وبناءً على العقل المقارن غدوا مع عودة الاستعمار الغربي إلى البلد، لأنه حسب القراءات والمقارنات كانت دولة الانتداب أرحم بكثير من كل الحكومات المسماة بالوطنية؛ ومن المؤكد أن ذلك المستعمر لو عاد إلى مرابعنا الآن فلن يكون قط أسوأ من طوابير الجاهلية الحديثة، سواءً أكانت تسمينفسها علمانية أم إسلامية.

ويبدو أن الحنين إلى حكم الاستعمار الغربي بات غير مستقبح، وربما يكون مستساغاً وذلك بعد كل التجارب الفاشلة للحكومات المحلية أو الوطنية، طالما أن شعوب الشرق لا تستطيع التخلص من عبودية المستبدبيسر، باعتبار أنه بدعوى الحرية قد ينتفض الشعب ضد أحد الطغاة، ولكن ليس للتخلص من فكرة العبودية نفسها، إنما للإنقضاض على المستبد القديمالذي ملوا من سحنته، ومن ثم الإرتماء في حضن مستبدٍ آخر ربما كان أردأ بكثير من المستبد الأول.

وللتأكيد على ذلك فإن سورية بعد سبع سنوات من الثورة لم يتحسن فيها وضع حرية وكرامة الإنسان في أي بقعة منها سواء لدى النظام أو لدى الجهات المنتفضة عليه، وها هو القبحُ القيمي والسلوكيمسيطر على الشارع السوري من أقصاه إلى أقصاه، إذ أن من بقي تحت رحمة نظام البعث الحاكم هو الى الآن مذلول من قبل شبيحة الأسد وأجهزته الأمنية، وكذلك الآخر معرّض لشتى صنوف الإهانة من قبل بعض الفصائل التي تمكنت يوماً من إنتزاع بعضالمناطق من النظام أو سيطرت على مساحات معينة، وكما أن المواطن المقيم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام يعتبر إرهابياً بنظر جلاوزة النظام، فهو بالمقابلشبيح بنظر أغلب عناصر الفصائل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبناءً عليه فمسموح للنظام إنزال أقسى عقوبة بحق من يقطنون في البقعة الجغرافية التي تحت يده، إضافة إلى تجرعهم اليومي لزناخة بعض الشبيحة الذين صاروا فيما بعد ثواراً بعد تغيير الموقع والشتائم والشعارات، ففي مناطق النظام كل مدني متهم بالإرهاب، وفي مناطق نفوذ الفصائل كل مواطن متهم بالعمالة والتشبيح للنظام، وفي عفرين كل كردي هو مشروع إهانة بحجة الانتماء أو التواصل أو التحدث مع حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د)؛هذا هو إذن حال سوريا وحال من يعيش فيها.

وإذا وضعنا التفوق العسكري للنظام جانباً من جهة قدرته على إرتكاب المجازر بالمدافع والصواريخ والطائرات، فإن ثمة تسابق غير معلن ميدانياً فيما يتعلق بالتعامل مع المدني بين مختلف الأطراف العسكرية على ارتكاب أشنع الانتهاكات بحقهم أينما كانوا، كما أن الأطراف العسكرية مجتمعةً بيّنت طوال السنوات الماضية بأنها معادية تماماً لحرية الصحافة والإعلام، وذلك لإدراك الكل بأن وسائل الإعلام إن كانت حرة في التنقل ونقل الوقائع من الميادين فستتبوأ حينها موقعها الحقيقي في سلسلة السلطات بكونها السلطة الرابعة، وتكون وقتها من أقوى أدوات مراقبة ممارسات الجهات الأمنية والعسكرية أينما كانت، وأينما وجدت تلك الوسائل، لذا ممنوع على الإعلام العالمي أو حتى الاقليمي الحر، دخول مناطق نفوذ نظام بشار الأسد، ومناطق سيطرة الفصائل، ومناطق سيطرة PYD على حدٍ سواء؛ علماً أن الجهات الثلاث تتعربش بمصطلحات مثل الحرية والكرامة الإنسانية، ناهيك عن أن المواطن صار يجفل من كلمة التحرير أينما ذكرت داخل الخارطة السورية، باعتبار أن جلهم تجرعوا مرارة التدمير باسم التحرير، فأسد البعث الاشتراكي يتحدث عن التحرير، وفيلسوف الإيكولوجيا آلدار خليل لا يكف عن شوي مفردة التحرير على نار أيديولوجيته، وفصائل الجيش الحر لا تكف عن ترداد مفردة التحرير، بينما بالنسبة للمواطن المقيم في الداخل السوري فكلمة التحرير بالنسبة له لا تعني إلاّ المزيد من الخراب والدمار الذي يعقبه في كل مرة تشريد الأهالي.

لذا فكل من كان صادقاً مع نفسه والآخرين ومعنياًبكرامة الإنسان وأمانه الشخصي والعائلي والاجتماعي بوجه عام، وكل مَن كان حريصاً فعلاً على صون بعض الحقوق الآدمية لمن بقي في الداخل السوري، والحصول ولو على شيء ضئيل من الحريةوالطمأنينة والسلام، ربما يتمنى في سره أو لعله يعلن جهارةً في المحافل الاجتماعية بأن تغدو سورية برمتها تحت سلطات الانتداب الأجنبي من جديد، علَّها تعمل على ترويض مختلف حاخامات الجهات العسكرية في البلد وأمراء الحرب فيها، وتؤنسن كل القطعان العسكرية المتحكمة بمصائر المدنيين في الداخل، وعلّها تفعل بهم دولة الانتداب تماماً كما فعلت عاهرة المعبد مع أنكيدو في ملحمة جلجامش*، حيث روضته وخلصته من الخصال الوحشية والسلوكيات البهيميةوجعلت منه فيما بعد إنساناً؛ وذلك طالما أن الإنسانيةليست إلاّ مرتبة يصل إليها الكائن البشري حسب تعبير سقراط.

ـــــــــــــــــــــــ

* جلجامش: حسب ملحمة جلجامش أن أنكيدو كان يعيش في البرية ويأكل ويشرب مع الحيوانات وكأنه فرد منهم، وكان يفسد فخاخ الصيادين، فقام أحد الصيادين بإخبار جلجامش، وأرسل جلجامش عاهرة من معبد الإلهة عشتار اسمها شمخات لكي تروضه وتعلمه التحضر، وتوجهت شمخات لمكان تواجد إنكيدو وقامت بمجامعته وعلمته التحضر وحينها رفضت الحيوانات مصاحبة إنكيدو وأصبح جزءاً من عالم البشر، فقامت شمخات بترقية أنكيدو، فخلصته من الوحشية وجعلت منه كائناً بشرية بعد ترويضه وتدجينه وتخليصه من خصاله الحيوانية