لحظة تراجع الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما عن ضرب نظام بشار الأسد لاستخدامه السلاح الكيمياوي ضد شعبه في 2013، كانت بمثابة اعلان رسمي بانسحاب الولايات المتحدة من دورها لاعباً أساسياً في المنطقة.

في تلك اللحظة، انطلق السباق للسيطرة على مناطق الفراغ السياسي، فكان داعش في 2014 وما استتبعه من تدخل روسي، ودخول واسع الاطار للميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق، وكذلك في الحرب اليمنية عام 2015. فتح صراع السيطرة على الشرق الأوسط على مصراعيه بين قوى إقليمية ودولية. ويسير الرئيس الاميركي دونالد ترامب رغم تبجحه كلاميا، في خطى اوباما، وإعلان الانسحاب من سوريا ما هو الا خطوة أخرى على مسار الانكفاء عن الشرق الأوسط، ولن تحصل المنطقة من سيد البيت الأبيض على اكثر من تغريدة بين حين وآخر، عن النفط والسلاح او "الإرهاب" الايراني.

الشرق الأوسط إذاً، ملعب مفتوح ما بين لاعبين يحاولون معرفة قدرتهم على السيطرة، وفرض النفوذ والمراوغة والقتال. ومرحلة الصراع الحالية بدأت تؤشر الى سيطرة روسيا كلاعب وحيد يحتفظ بعلاقات جيدة مع كل من الأقطاب الإقليمية الأربعة: ايران وتركيا والسعودية وإسرائيل، كما ان علاقاته جيدة مع لاعبين مثل مصر وقطر. وما الزيارات المتتالية لقادة المنطقة الى روسيا إلا مؤشر على الدور المتقدم التي أصبحت روسيا تلعبه في المنطقة بالإضافة لتمركز قواتها العسكرية وعلاقاتها الأمنية مع كافة الأنظمة. لكن روسيا غير قادرة على فرض السيطرة ذاتها التي كانت للاميركيين، فما زلنا نشهد ساحات الدول العربية الداخلية تتأرجح ما بين هدنة مؤقتة او عدم استقرار يعيد تأجيج القتال، مثل فشل تشكيل حكومة في لبنان والعراق، او الهدنة في الحديدة او في ادلب او الجولان.

يعني ذلك ان في عام 2019 سيستمر الجو متفجراً& في المنطقة، ولن تكون اميركا "الشرطي"، وستحاول روسيا ان تلعب دوراً اكبر من قدرتها رغم خلافات دول المنطقة مع بعضها، من خلال التنسيق مع الأميركيين بسبب عدم اكتراث الأخيرين للمنطقة استراتيجيا. فتركيا ليست على علاقة جيدة مع السعودية، وايران تعادي إسرائيل، وتركيا تحاور ايران بحذر وتحاول ان لا تشتبك مع إسرائيل، هذه الأرض المتفجرة التي تحاول روسيا ان تؤثر فيها. رغم ذلك، حدث مثل صدام فوق الانفاق على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، او طائرة من دون طيار تسقط فوق الجولان، او صاروخ داخل الحدود السعودية، او اشتباك في منبج او إدلب، اي من هذه الأحداث كافياً باعادة اشعال المنطقة بالكامل.

لكن عام 2019 يفتح نافذة امل على المنطقة بانحصار الصراع العسكري في سوريا، وكذلك في العراق، وهدنة ولو هشة في اليمن. نافذة تطرح إمكانية الدخول في مفاوضات لتحديد مناطق نفوذ وتوزيع أدوار على اللاعبين الأساسيين، والاهم الحد من طموحهم. فمع انحسار القتال في سوريا والعراق، والوضع الراهن في اليمن وشمال غربي سوريا (إدلب)، تبرز تساؤلات جديدة حول من سيمول إعادة الاعمار؟ وكيف ستكون الأنظمة السياسة داخل تلك الدول التي كانت مسرحاً للقتال؟ وما هي المصالح التي يتمسك بها اللاعبون الأساسيون؟ وهل حلفاء الحرب هم نفسهم حلفاء السلم والاعمار؟

من مؤشرات التوجه نحو نافذة الامل، تخفيف الاحتقان خليجياً، وسورياً، ومحاولة لم الشمل عربيا بالتدريج. وكذلك مع انحسار القتال يصبح المال عامل النفوذ الأول بعدما كان في المرتبة الثانية مقارنة بالقوة العسكرية. يعني ذلك أن المال الخليجي اصبح اكثر أهمية استراتيجيا وعمليا من القوة القتالية للميليشيات المتحالفة مع ايران التي تقاتل في العراق وسوريا. من هنا يمكن رسم ملامح التحوّلات الجارية. الحليف الاستراتيجي الجديد لروسيا ممكن ان يكون إحدى دول مجلس التعاون الخليجي، فهي مصدر الأموال التي قد تخصص لاعادة إعمار سوريا بالتعاون مع متعهدين روس، ولتحويل الاستثمار الروسي في سوريا الى مردود مالي وقصة نجاح للرئيس فلاديمير بوتين، ليس فقط ماليا بل من خلال حل ازمة اللجوء السوري الى اوروبا.

الإيرانيون ليس في مقدورهم المنافسة ماليا دول مجلس التعاون، خاصة في ظل الحصار الأميركي والتضييق المالي، ولا حتى من ناحية تأثيرهم في عواصم القرار حول العالم. وربما تلتزم قطر بدعم خطط الروس الاعمارية مع بعض التمايز لدعم تركيا صديقتها في خططها لاعمار الأجزاء الواقعة ضمن نفوذها في شمال سوريا.

وعلى صعيد تركيا، لا مصلحة لروسيا في تقوية تركيا، او تمدّد رجب طيب اردوغان في العالم الإسلامي لما لذلك من انعكاسات على الأقليات التركمانية والإسلامية داخل الاتحاد الروسي،& ولئلا يخسر الروس تأييد الخليجيين الذين يحملون نقمة كبيرة على اردوغان بسبب مواقفه إزاء قضية الخاشقجي وكذلك لتعاونه العلني مع النظام الايراني. أما التحدي الأكبر لروسيا هو ضبط ردة الفعل الإيرانية، وطموحاتها التوسعية، فهي القادرة على تعكير الأمور وإعادة تأجيج الاشتباكات، مثل تعطيل تشكيل حكومة في العراق ولبنان، وحتى درجة اعلى من المشاغبة مثل اشتباكات على الحدود اللبنانية او في ادلب او صواريخ في الجولان. والقوة العسكرية الإيرانية ما زالت قادرة على "اغلاق النافذة"، خاصة عبر الاستفادة من حاجة رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو لمعركة عسكرية لضمان نجاحه في انتخابات ربيع ٢٠١٩ وللتغطية على اتهامات الفساد بحقه في المحاكم الاسرئيلية.

نافذة حقيقية، وممكن الاستفادة منها، لكنها بحاجة لمستوى دبلوماسي رفيع وتنسيق ما بين الروس والاميركيين والاوروبين مع كافة الأفرقاء الشرق اوسطيين لتثيبت الهدنة والاستقرار، واطلاق عمليات إعادة الاعمار وإعادة احياء السلطات والقدرات لدول مثل العراق واليمن ولبنان وسوريا في إدارة شؤونها وتفعيل مؤسساتها.

كما تفترض "النافذة"، ضبط مفاجآت الرئيس ترمب، واستمرار امساك اردوغان بحكم تركيا، وثبات نظام ايران بوجه الحصار، واستقرار الحكم في الخليج، وانشغال إسرائيل داخلياً وابتعادها عن المسرح الإقليمي. عام 2019 في بداياته، وما سيسجله في تاريخ المنطقة ما زال صفحات بيضاء، قد يكون عنوانها: "انسحاب اميركا واستمر الصراع المفتوح وغرق روسيا في الفوضى"، .... او "انسحاب أميركا ونجاح روسيا في فرض التحول نحو الاستقرار".

&

&