ثمن الحقيقة... وثمن الهرب منها !

خيرالله خيرالله

كان يفترض بالرئيس بشّار الأسد أن يجد أفضل من السيد فاروق الشرع للدفاع عن نظامه أمام مجلس الأمن، ذلك أن وزير الخارجية السوري لم يكن كعادته موفقاً خصوصاً لدى تناوله تقرير لجنة التحقيق الدولية في أغتيال الرئيس رفيق الحريري التي يرئسها القاضي الألماني ديتليف ميليس. فقد ظهر الشرع الذي أعتبر في حينه القرار 1559 "سخيفاً" وان سورية غير معنية به ، في مظهر من لم يقرأ تقرير ميليس، وفي حال قرأه، لم يستوعب مضمونه كما لم يستوعب مضمون النقاشات الدائرة في مجلس الأمن التي ادت الى صدور القرار 1636 في شأن ضرورة التعاون الكامل لسورية مع التحقيق الدولي في أغتيال الحريري.

آن أوان أن تتخلص سورية – النظام من الأوهام وان تقتنع في العمق بأن اغتيال رفيق الحريري كان قبل كل شيء دليلا على مدى عمق ازمة النظام الحاكم في دمشق الذي تحوّل الى رجل المنطقة المريض لا أكثر ولا أقل. تلك هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها نتيجة الأحداث التي شهدها لبنان منذ القرار المجنون القاضي بتمديد ولاية الرئيس أميل لحود والذي نفّذ عنوة في الثالث من أيلول- سبتمبر من العام 2004. منذ الفترة التي سبقت أتخاذ القرار بالتمديد للحود ، لم يتوقف النظام السوري عن الأنحدار الى الهاوية. وهذا الأنحدار لا يزال مستمراً ما دام ليس هناك من يريد التوقف وطرح السؤال الأساسي الذي يتمثّل في الآتي: هل في أستطاعة النظام السوري مواجهة الحقيقة؟ أي هل في أستطاعته أجراء تحقيق حقيقي، او على الأقل المساعدة في أجراء تحقيق حقيقي يؤدي الى كشف الحقيقة ومعرفة من قتل رفيق الحريري؟

بدل أن يضيع السيد فاروق الشرع وقته في طرح أسئلة سخيفة من نوع لماذا لم يُلاحق مرتكبو مجزرة قانا في العام 1996 على غرار ملاحقة النظام السوري، كان الأجدر به أن يدرك أن العالم كله يعرف أن العدو الأسرائيلي كان وراء مجزرة قانا، لكن هذا العالم، ومعه لبنان والعرب، لم يكن ليتصور أن تكون هناك شبهات في الدائرة المحيطة بالقيادة السورية، وحتى بالقيادة نفسها، في قضية أغتيال رجل أسمه رفيق الحريري بذل كل ما بذله من أجل العروبة ومن أجل سورية ولبنان. أن الجرائم التي ارتكبها العدو الأسرائيلي أن في لبنان أو في فلسطين، لا يمكن في اي شكل ان تبرر الجرائم التي أرتكبت في حق لبنان واللبنانيين وفي حق أي عربي شريف أكان في لبنان او في سورية أو في اي بلد عربي آخر. ولذلك كان من الأفضل لو ألتزم السيد الشرع الصمت وأكتفى بالأعلان عن أن النظام في سورية على أستعداد للأنصياع لقرار مجلس الأمن لعلّ وعسى يؤدي ذلك الى أيجاد مخرج ما يحول دون أعتراف النظام بكل الحقيقة...علماً بان كل الحقيقة سيعرف يوماً ولا مفر من الهرب منه شاء من شاء وأبى من أبى!

ولكن بعيدا عن الكلام الذي لا معنى له للسيد الشرع، وهو كلام ينمّ عن جهل وعدم رغبة في مواجهة الحقيقة، أو على الأصح عن عدم القدرة على ذلك، لا بد من ملاحظة أمرين في غاية الأهمية. الأمر الأول أن القرار1636 الذي يدعو النظام السوري الى التعاون في كل ما له علاقة بجريمة أغتيال رفيق الحريري أتخذ بناء على الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، أي أن النظام السوري مُجبر على التعاون الكامل مع التحقيق الدولي الذي يشرف القاضي ميليس. وأذا لم يفعل ذلك تنتظره عقوبات دولية ليس معروفا ألمدى الذي يمكن أن تصل اليه، لكن الأكيد انها يمكن ان تصل الى ابعد مما يمكن ان يتصوره كثيرون، بما في ذلك اركان النظام في دمشق. أما الأمر الآخر المهم ، فأنه يتمثّل في أن القرار الداعي الى التعاون السوري الكامل مع اللجنة الدولية أتُخذ بالأجماع أذ أيّده الأعضاء ال15 في مجلس الأمن وتلك نكسة للنظام السوري الذي بقي حتى اللحظة الأخيرة يمني النفس بفيتو روسي أو بوجود أعضاء في مجلس الأمن على غير أستعداد للتصويت مع القرار في حال ألأصرار على أعتماده بموجب هذا البند.

فشلت كل المناورات التي لجأ اليها النظام السوري في مجلس الأمن ولكن هل يعني ذلك أنه على أستعداد للمساعدة في كشف الحقيقة وتحديد من خطط ومن ساعد ومن نفذ جريمة أغتيال رفيق الحريري؟ هل يمكن للنظام أن يدين نفسه أم سيمارس عملية هروب الى أمام عبر تفجير الوضع في لبنان عبر ما تبقى له من عملاء في البلد الذي تحكم بمعظمه نحو اربعة عشر عاماً بين 1976 و 1990 ثم ما لبث ان تحكّم به كله بين العامين 1991 و2005 ؟ وما قد يكون أهم من ذلك هل يستطيع هذا النظام أيجاد مخرج لنفسه من ازمته، التي كان اغتيال الحريري افضل تعبير عنها،أم أنه محكوم عليه الأنتقال من ازمة الى اخرى ومتابعة الهروب الى أمام وذلك منذ اليوم الذي وجد فيه ان ليس أمامه سوى التمديد لأميل لحود وهو تمديد تسبب، شئنا أم ابينا بصدور القرار 1559 ، القرار "السخيف" و"التافه" في مفهوم الشرع، الذي أدى في مرحلة لاحقة الى خروج القوات السورية من لبنان بطريقة لا يرضاها أي لبناني أو سوري يمتلك حدّا أدنى من الشعور القومي.

في النهاية ما الذي سيفعله النظام السوري؟ هل يقبل التعاطي مع الحقيقة أم يتابع عملية الهرب منها؟ في كل الأحوال أن ثمن الحقيقة سيكون غاليا عليه. اما ثمن الهرب منها فأنه سيكون أغلى من دون أن يعني ذلك ان لبنان سيتجنب ألأذى والمصائب. على العكس من ذلك ان النظام السوري ما زال قادرا على أرتكاب الكثيرغير مدرك أن العالم تغيّر وان عقارب الساعة لا يمكن ان تعود الى خلف وان أفضل ما يمكن ان يفعله أعتماد سياسة الحد من الخسائر التي تبدأ بالأعلان الصريح عن الرغبة في مواجهة الحقيقة مهما كانت مؤلمة. ولكن هل في أستطاعة النظام أعتماد هذا الحل الذي مهّد الطريق له اللواء غازي كنعان وزير الداخلية السوري والحاكم المطلق للبنان سابقاً الذي اقدم على الأنتحار قبل ايام بعد أدراكه أن ليس في الأمكان الهرب من واقع ما.... وأن ما كان يصلح للأمس لم يعد صالحاً اليوم وأنه كلما أستمر الهرب من الحقيقة ، كلّما زاد الثمن الذي لا بد من دفعه!