واشنطن: بينما كان الأميركيون يحتفلون بذكري عيد المحاربين القدماء وعودة الجنود للوطن في الحادي عشر من نوفمبر الماضي بمناسبة نهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية عامي 1918 و1945، كان نواب الكونجرس الأميركي من الحزب الديمقراطي ينهمكون في دراسة كيفية الخروج من نفق العراق المظلم وعودة القوات إلى أرض الوطن. والبحث عن سبيل جديد واستراتيجية أكثر جدية لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي بالعراق وبدء انسحاب أو إعادة انتشار للقوات الأميركية بعد أن ضاعت كافة جهودهم منذ أوائل العام الحالي أمام فيتو الرئيس بوش وعدم التمكن من تمرير قرار بأغلبية ثلثي مجلس الشيوخ في أكتوبر الماضي يلزم إدارة بوش ببدء الانسحاب الفوري من العراق.

استراتيجية استنزاف الإدارة

تقوم الإستراتيجية الجديدة على مبدأ quot;الاستنزاف البطيءquot; لإدارة بوش ولوزارة الدفاع quot;البنتاجونquot; من أجل إنهاء الحرب في العراق، وذلك عبر رفض تخصيص الأموال المطلوبة من كليهما لدعم العمليات في كل من العراق وأفغانستان. وقد أعلنت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي (ديمقراطية ـ ولاية كاليوفورنيا) يوم 6 نوفمبر الماضي أمام اجتماع المؤتمر الحزبي الديمقراطي عن استراتيجية جديدة تقوم على إجراءات تنهي الحرب بحلول ديسمبر عام 2008، مع ترك العدد الكافي من الجنود وقوات المارينز لمواجهة الإرهابيين وتدريب قوات الأمن العراقية وحماية القواعد الأميركية.

وبدأت ملامح التحرك الديمقراطي والمواجهة الجديدة مع الإدارة في التبلور بعد أن وافق النواب الديمقراطيون يوم 7 نوفمبر على مشروع قانون للإنفاق العسكري بدون تخصيص أي أموال إضافية لحرب العراق. ويقضي هذا المشروع الذي وافق عليه أعضاء لجنتي المخصصات في مجلسي النواب والشيوخ بتوفير مبلغ قدره 460 مليار دولار لميزانية البنتاجون الأساسية للعام المالي 2008 والذي بدأ في الأول من أكتوبر الماضي.

أما المخصصات الإضافية التي يطلبها البنتاجون لحربي العراق وأفغانستان والتي تبلغ 196 مليار دولار حتى 30 سبتمبر 2008، فإن الديمقراطيين لا يرغبون في تمريرها. وبدلا من ذلك تطرح رئيسة مجلس النواب وعدد من الديمقراطيين مشروع قانون منفصل سيطرح قريبا للتصويت. ويقضي المشروع بتمويل جزئي قدره 50 مليار دولار للعمليات العسكرية في العراق يرتبط بأهداف محددة وفترة زمنية معينة تبلغ أربعة أشهر فقط، تستخدم لتمويل quot;بداية إعادة انتشار فوري للقوات خارج العراق سيحصل خلال عام، وحماية الجنود والدبلوماسيين والتصدي لتنظيم القاعدة وتقديم دعم محدود لقوات الأمن العراقيةquot;.

وعلى الرغم من أن هذا المشروع الجديد يشبه مشروع قرار اعترض عليه الرئيس بوش في مايو الماضي بعد عدم تمكن الديمقراطيين من حشد أغلبية الثلثين، ثم تخصيص 95 بليون دولار كنفقات طوارئ لوزارة الدفاع ذهب نحو 70 بليون منها للعمليات في العراق وأفغانستان، فإن الديمقراطيين يأملون هذه المرة أن يتمكنوا من تمرير مشروعهم معتمدين على عدد من الأمور أبرزها:

أولا: استطاع الكونجرس يوم 8 نوفمبر وللمرة الأولى أن يبطل فيتو الرئيس لصالح مشروع قانون تنمية الموارد المائية والمخصص له مبلغ 23 مليار دولار، وذلك بأغلبية 79 عضوا مقابل رفض 14 بمجلس الشيوخ، الأمر الذي أعطى الديمقراطيين بعض الأمل في كسر وحدة الحزب الجمهوري في دعم استخدام بوش للفيتو حول مشروعات قوانين أخرى.

ثانيا: يسعى الديمقراطيون إلى الربط بين الموافقة على أي مخصصات مالية أو نفقات استثنائية جديدة لحربي العراق وأفغانستان وبين تغيير سياسات بوش في العراق على وجه خاص كما يؤكد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ هاري ريد (ولاية نيفادا) والذي أشار إلى ضرورة أن يأخذ الكونجرس في اعتباره التوجهات الحديثة في الرأي العام بعد أن أظهر أحدث استطلاع قامت به شبكة CNN إلى أن 68% من الأميركيين يعارضون الحرب، وفي استطلاعات أخرى ألقى المواطنون اللوم على نواب الكونجرس وخاصة الديمقراطيين الذين تنقصهم القدرة على تغيير سياسات الرئيس بوش، وهو ما يضر الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما تحدث ديفيد أوبي (ديمقراطي ـ ولاية ويسكونسن) رئيس لجنة المخصصات في مجلس النواب عن تحديد هدف قومي لسحب القوات الأميركية من العراق بحلول ديسمبر 2008. بينما ذكر العضو جون مورثا (ديمقراطي ـ بنسلفانيا) رئيس اللجنة الفرعية للإنفاق الدفاعي بمجلس النواب بأن quot;الشعب الأميركي يريد الانتهاء من هذه الحرب، وأن الديمقراطيين يعتقدون أن الناخبين صوتوا لهم للحصول على الأغلبية في الكونجرس في عام 2006 من أجل إنهاء الحربquot;.

ثالثا: إن تكلفة الحرب على العراق بشريا وماديا في تزايد مستمر، حيث أفاد مكتب الميزانية بالكونجرس أن الكونجرس قد أعطى إدارة بوش 604 مليار دولار لحربي العراق وأفغانستان منذ عام 2001، وبلغ حجم الإنفاق في العراق وحدها 412 مليار دولار، وهو ما دفع بيلوسي إلى القول بأنها quot;لن تعطي الرئيس شيكا على بياضquot;، تقصد التصديق على مبلغ 196 مليار الذي سيتيح لإدارة بوش الاستمرار في الحرب خلال العام القادم. وفي محاولة لكسب بعض الرأي العام، كان بعض النواب الديمقراطيين قد كشف في أكتوبر الماضي عن خطة لزيادة الضرائب على الأميركيين لأجل المشاركة في دعم المجهود الحربي، وأكدوا أنهم أن مثل هذه الزيادة لا تحظى بتأييد رئيسة المجلس نانسي بيلوسي وأنهم سيقفون ضدها بحزم إذا عرضت كمشروع قرار من بعض النواب الجمهوريين.

وعلى جانب الخسائر البشرية، أشارت بيلوسي إلى أن أحدث إحصاء لعدد القتلى الأميركيين في العراق يؤكد أن عام 2007 هو الأكثر دموية للقوات الأميركية، ووصل العدد خلال هذا العام وحده (حتى يوم 5 نوفمبر) إلى 853 قتيلا، ليكون العام الأسوأ منذ عام 2004 حين بلغ عدد القتلى 849 جنديا.

البيت الأبيض وسلاح الفيتو

في أول رد فعل يصدر من إدارة بوش على اقتراح الديمقراطيين وخطتهم الجديدة، ذكر المتحدث باسم البيت الأبيض توني فراتو قوله: quot;الرئيس سوف يكرر الفيتو على كل مشروع قانون يضع وقتا زمنيا ما لانسحاب القوات من العراق. ولابد من أن ندعم قواتنا حتى تنجح لا أن نجد من الوسائل ما يعيق مهماتهاquot;.

وبالمثل، فقد انتقد عدد من نواب الحزب الجمهوري خطة الديمقراطيين بشدة، مشيرين إلى أنها تقضي على جهود الجيش الأميركي اليوم. فالسيناتور ميتش ماكونويل (ولاية كانساس) زعيم الأقلية الجمهورية بمجلس الشيوخ ذكر: quot;إن الديمقراطيين أساءوا التوقيت وخانهم الحظ الآن بسبب التقدم العسكري الحادث في العراق، وأنه بينما يواجه جنودنا العنف ويقاومون الإرهابيين في بغداد وفي أنحاء العراق؛ فإن الديمقراطيين في واشنطن يسعون لوقف دعمهم ماديا في هذا المجالquot;. أما السيناتور جون (ولاية أوهيو) فقد رأى أن اقتراحات الديمقراطيين بالانسحاب المحدد غير منطقية وما هي إلا أساليب ومحاولات توضح أعمالهم البهلوانية السياسية وأهدافها الداخلية، وأضاف: quot;القوات الأميركية نجحت هذا العام في تحسين قدرات الأمن العراقية وهناك أدلة على بعض النجاح العسكري في تأمين مناطق عديدة بالعراق، بينما يركز الديمقراطيون نقدهم فقط على عدم التقدم في جهود المصالحة السياسية هناكquot;. وانتقد السيناتور الجمهوري تيد ستيفنز (ولاية آلاسكا) الديمقراطيين كونهم يوجهون جهودهم نحو عرقلة الجيش قائلا: quot;أموال الجيش سوف تنضب في يناير القادم فيما يتعلق بحرب العراق، وأعتقد أن الكونجرس سيجعل الجيش يفلس إذا رفض تقديم الأموال التي تحتاجها تلك القوات الآنquot;.

أما وزارة الدفاع الأميركية لا تزال تحض النواب على تقديم الـ 196 مليار دولار، مبررةً ذلك بالحاجة الملحة لاستمرار الحرب على الإرهاب وتحسين أداء الجنود في العراق وأفغانستان. تجدر الإشارة إلى أن وزارة الدفاع كانت قد حصلت في العام الماضي على مبلغ 70 مليار دولار للحربين بهدف استمرار العمليات القتالية، وأنها كانت تنتظر المصادقة على مشروع قانون إنفاق طوارئ أكثر حجما هذا العام لولا هذه المحاولات الديمقراطية الراهنة.

ومن بين القضايا العالقة أيضا بين البنتاجون والكونجرس طلب الأول منذ 24 أكتوبر الماضي من النواب تخصيص مبلغ قدره 88 مليون دولار إضافية بناءً على طلب من سلاح الجو الأميركي لإنجاز تطوير عاجل للقاذفات من طراز بي ـ 2 حتى تتمكن من إلقاء قنابل تجريبية موجهة بالقمر الصناعي تزن 13.6 طناً وتخترق التحصينات العميقة، لتضاف إلى مبلغ 83.5 مليون دولار تم الموافقة سابقا عليها لإنجاز تطوير هذه القنبلة و4,2 مليون لتعديل الطائرة بي ـ2. وهذه التطويرات يراها البعض أنها بمثابة استعداد من وزارة الدفاع لاحتمال القيام بعمل عسكري ضد المنشآت النووية في إيران.

وبناءً على ما سبق فمن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة عودة المواجهة الساخنة التي تدور بين النواب الديمقراطيين وبين الرئيس بوش والنواب الجمهوريين منذ بداية هذا العام، أضف إلى ذلك دخول المواجهة الأمريكية لطموحات إيران النووية على خط التفاعلات السائدة بين نواب الكونجرس إن في جانب البحث عن أفضل السبل لمواجهة الطموح الإيراني أو في جانب مطالبة بعض النواب بعدم ذهاب الإدارة إلى إعلان شن حرب على إيران دون موافقة مسبقة من الكونجرس ومطالبة آخرين بعقد جلسات استماع مختلفة وتقديم تقارير استخباراتية وافية حول التقدم الإيراني النووي وكيفية المواجهة، الدبلوماسية منها أو العسكرية.