طرابلس:غير المجلس الأعلى للقضاء الليبي حكم الإعدام الصادر في أوائل يوليو الحالي بحق خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني بتهمة حقن الأطفال الليبيين بفيروس الإيدز بحكم السجن المؤبد. وانتظر المجتمع الدولي بأسره لا بلغاريا وحدها بقلق بالغ صدور هذا القرار، وإن صعب على المرء أن يتصور أن هذا الحكم سينفذ نظرا إلى الطابع البراغماتي الذي يميز سياسة ليبيا تجاه الغرب في الآونة الأخيرة. ولو تم ذلك لتكبدت الشركات الغربية الناشطة في ليبيا خسائر تقدر بمليارات الدولارات ولكانت ليبيا ستتعرض حتما لعقوبات دولية فيما لو انتهى هذا الانتظار بنتيجة مأساوية.
وقد تزامنت quot;قضية الأطباءquot; مع محاولات طرابلس ردم نسيج علاقاتها المفسدة مع الغرب. ويعكس تطور هذه القصة منطق تطور الحوار بين ليبيا والعالم الغربي. دعونا نعيد إلى الأذهان بعض الحقائق. في عام 1999 حقن 400 طفل في مدينة بنغازي الليبية بفيروس الإيدز. ووجهت التهمة بصدد هذا الحادث إلى ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني عملوا آنذاك في ليبيا. وفي عام 2004 أصدرت محكمة الدرجة الأولى حكم الإعدام بحق المتهمين. لكنهم رفعوا الطعن في هذا الحكم مطالبين بإعادة النظر في قضيتهم. وفي 25 ديسمبر 2005 ألغت المحكمة العليا الليبية حكم الإعدام السابق. بيد أن محكمة التمييز العليا في طرابلس أكدت في 19 ديسمبر 2006 حكم الإعدام. وأصدرت المحكمة العليا الليبية قرارا مماثلا بهذا الشأن في جلستها التي عقدت في 11 يوليو الجاري.
وقد كان المتهمون يعلقون أملهم الأخير على المجلس الأعلى للهيئات القضائية في ليبيا. ومما يسّر حل المشكلة أن أولياء أمور الأطفال المحقونين بالإيدز وافقوا على استلام التعويضات المالية (بمقدار 1 مليون دولار لكل طفل) مقابل تخليهم عن المطالبة بإعدام الأطباء. وقد وردت أموال التعويضات عشية اجتماع المجلس الأعلى للهيئات القضائية. ولا يكشف رسميا عن مصدر التعويضات بيد أنه معروف أن صندوق القذافي الخيري والاتحاد الأوروبي لعبا دورا رئيسيا في ذلك.
ولكي نتفهم منطق السلطات الليبية في quot;قضية الأطباءquot; ينبغي علينا أن نتذكر مجرى تطور الأحداث المتعلقة بليبيا طيلة ربع القرن الأخير.
أنزلت الولايات المتحدة في نيسان 1986 سلسلة من الضربات الجوية بالأهداف البرية في ليبيا. وإبان إحدى تلك الغارات الجوية جرى هدم مقر القذافي وقتلت ربيبته. وقد جاءت هذه الغارات - على حد تعبير الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريغان - ردا على quot;الأدلة الدامغةquot; على تورط ليبيا في انفجار طال في نفس ذلك الشهر ملهى رقص (ديسكوتيك) في برلين الغربية. وأسفر ذلك العمل الإرهابي عن مقتل ثلاثة أشخاص بينهم جنديان أمريكيان. وقطعت واشنطن كل التعامل مع ليبيا وحظرت على المواطنين الأمريكان زيارة هذا البلد بدون الترخيص الرسمي الخاص. وتركت ليبيا أيضا الشركات النفطية الكبيرة التي كانت تستخرج مليون برميل من النفط الليبي يوميا.
وفرض مجلس الأمن الدولي عام 1992 على ليبيا عقوبات دولية لرفضها التعاون في تحقيق قضية تفجير طائرتي ركاب: إحداهما التابعة لشركة quot;بان آمquot; الأمريكية - عام 1988 فوق بلدة لوكربي الإسكتلندية وثانيتهما التابعة لشكلة quot;يوتاquot; الفرنسية - عام 1989 في سماء إفريقيا مما أودى بحياة 440 شخصا. واشتبه في أن ليبيا هي العقل المدبر لهذين العملين وغيرهما من الأعمال الإرهابية.
غير أن هبوط أسعار النفط والوضع الاقتصادي في المنطقة أجبرا ليبيا على تليين موقفها. فقد وافقت طرابلس عام 1996 على التعاون مع السلطات الفرنسية في التحريات في حيثيات سقوط طائرة شركة quot;يوتاquot;. كما تم عام 1999 إحضار المواطنين الليبيين المشتبه بتورطهما في جريمة لوكربي إلى محكمة في لاهاي لمقاضاتهما هناك طبقا للقوانين الإسكتلندية. وفي نفس ذلك الحين شهد الرفع المؤقت لعقوبات مجلس الأمن الدولي ضد ليبيا واستئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة المواصفات بين ليبيا وبريطانيا. وفي أغسطس عام 2003 اعترفت طرابلس بمسؤوليتها عن العملين ووافقت على دفع التعويضات لعائلات ضحاياهما. وفي سبتمبر نفس ذلك العام تم الرفع النهائي للعقوبات الدولية.
وقد رفعت الولايات المتحدة عام 2004 هي أيضا عقوباتها ضد ليبيا. وذلك بعدما أعلن الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي جهارا في ديسمبر عام 2003 أن بلده يعقد العزيمة على التخلي كليا عن برامج تصنيع أسلحة الدمار الشامل. وقد أكدت عمليات التفتيش الدولي فيما بعد صدق كلامه. ونشير بالمناسبة إلى أن الدور الملحوظ في تبني هذه السياسة البراغماتية من قبل ليبيا يعود إلى واقع أن الغرب خاض المفاوضات معها خلال السنوات الأخيرة في جو من الاحترام وسمح للقذافي والنخبة السياسية الليبية بالحفاظ على ماء الوجه والشعور بعزة النفس في عين أهالي البلد والعالم بأسره. وتأتي قضية الممرضات البلغاريات دليلا آخر على ذلك. فقد تمسكت ليبيا بكل الإجراءات القضائية المنصوص عليها في تشريعاتها الوطنية ثم أبدت الرأفة. وإن كان هدف هذه الخطوة هو المنفعة من التعاون الاقتصادي مع الغرب في شتى الميادين (من النفط إلى التسليح). ونأمل أيضا أنه بفضل نفس الاعتبارات البراغماتية سوف تسمح السلطات الليبية للممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الذي نال الجنسية البلغارية بمغادرة ليبيا.
ومن دواعي الأسف أن الغرب لا يطبق الإستراتيجية المماثلة تجاه إيران أو الشرق الأوسط برمته.
التعليقات