فياض يدعو للقبول بخطة المصالحة المصرية دون شروط
برن: استحقاقات كثيرة تضبط المشهد السياسي الفلسطيني، تحمل في طيّـاتها مخاطِـر على مستقبل قضية شعب، كُـتب عليه أن يكون مسيحَ وضحيةَ العصر الحديث، ومصدر هذه المخاطر نابع أساسا من كونه، للمرة الأولى منذ نكبة 1948، وفي ظل تراجُـع دولي وعربي عن الاهتمام والتّـعاطف مع قضيته وانفضاض مؤيِّـديه، يعيش حالة انقسام داخلي، أخذ ويمكن أن يأخذ شكلا دَمويا.

وإذا كانت عملية السلام، التي دخلتها قيادة الشعب الفلسطيني منذ ثلاثة عقود ونصف، قد أفضت إلى مأزق مؤجّـل التفكير بتجاوزه خلال المرحلة القادمة، نظرا للأزمة الحكومية الإسرائيلية وتعثُّـر تسيبي ليفني في تأمين ائتلاف يضمَـن لها أغلبية برلمانية، وأيضا لحلول الانتخابات الأميركية والاحتمال الكبير لوصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، وهو ما يعني عمليا، انشغالها خلال الشهور الأولى على الأقل بترتيبات داخلية مُـترافقة مع انشغالات بالمستنقعَـيْـن، العراقي والأفغاني.

الوضع الفلسطيني الداخلي المتوتر

أمام هذه الانتظارات، تؤكد القيادة الفلسطينية أنها ملتزمة بمسار المفاوضات، إلا أن أوساطها تنقل عن محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، قناعته بعدم جدواها وأن إعلان التزامه بها ينطلق، كما قالت هذه الأوساط لسويس انفو، من حِـرصه على عدم تحميل العالم، الفلسطينيين مسؤولية فشلها وتداعِـيات ذلك على السلطة التي قد يكون أقلها، quot;حصارا ماليا واقتصاديا وتِـكرار سيناريو التّـعاطي الدولي مع الرئيس ياسر عرفات في أيامه الأخيرةquot;.

لكن هذا كلّـه لا يشغل البال الفلسطيني، لأنها ليست المرة الأولى التي تمُـر بها قضيته بانحسار بسبب تحوّلات وتطوّرات إقليمية أو دولية. وما يشغل البال الفلسطيني، هو وضعه الداخلي الذي يعيش توتُّـرا منذ ظُـهور حركة المقاومة الإسلامية حماس، منافسا حقيقيا لحركة فتح التي قادت الشعب الفلسطيني منذ ظهور حركته الوطنية بعد النّـكبة ونقلته من شعب لاجئ وقضية منسِـية إلى شعب أنموذج للنِّـضال والتضحية، وأيضا تحقيق انتصارات، ولو غير حاسمة، وإلى قضية تحتلّ قائمة أولويات الاهتمام العالمي ورمْـزا للتحرّر والانعتاق.

مسار عملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي وتعثرها والانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000 وسوء الإدارة والفساد، الذي طبع تدبير حركة فتح للسلطة وأجهزتها منذ 1994، وانشغال قادتها وكوادِرها quot;بمكاسِـبquot; السلطة وامتيازاتها وتنديدها الدّائم بمقاومة الاحتلال، وانحِـسار اليسار الفلسطيني بكلّ فصائله، جعَـل حركة حماس كحركة معارضة داعية للمُـقاومة من خارج السلطة ونشاط كوادرها في الميدان الاجتماعي والخيري من جهة، والمد الأصولي من جهة ثانية، قِـبلة للفلسطينيين وأملا بإعادة الرّوح لقضيتهم، كقضية تحرر ومقاومة، ومنحُـوها في الانتخابات التشريعية في يناير 2006 ثِـقتهم.

ولم يكُـن فوز حركة حماس بأغلبية مُـريحة في المجلس التشريعي مفاجئا لحركة فتح والأطراف المعنية بالمِـلف الفلسطيني فقط، بل أيضا لحركة حماس نفسها، وحاولت تصريف هذا النجاح كحزب فائِـز فُـتِـحت له الأبواب للتدبير المُـنفرد للسلطة وأجهزتها، على غرار تدبير حركة فتح، دون أن تُـدرك أن استسلام فتح لهزيمتها في التشريعيات لن يكون سهلا في ظل دعم إقليمي ودولي، تجسّـد بحصار على السلطة، بل أيضا وهذا الأساس، أن في يَـد فتح مفاتيح السلطة وأجهزتها، خاصة الأجهزة الأمنية التي جعلت عرقلة تدبير حماس للسلطة وبكل الوسائل والأساليب، هدفها الرئيسي ونجحت حماس بعد الانتخابات بـ 16 شهرا وبعد تطوير أجهزتها العسكرية والأمنية، ومع استفحال الانفلات الأمني، إلى حسم مشاحناتها مع الأجهزة الأمنية بالقضاء عليها وطرد قادة الأجهزة من غزة والاستيلاء على مقرّاتها ومقرّات السلطة.

مخاطر التوتر الحمساوي الفتحاوي

وقبل الحسم، كما تسميه حماس، أو الانقلاب، كما تسميه فتح، كانت الأطراف الفلسطينية والعربية تتحرّك لتطويق المأزق الفلسطيني، ونجَـحت المملكة العربية السعودية في الوصول بالطرفين إلى اتفاق مكّـة، الذي لم يصمد طويلا، رغم إفرازه quot;حكومة وِحدة وطنيةquot; شاركت فيها، إلى جانب أغلبية حماس، حركة فتح وفصائل أخرى، لكن أي مُـراقب للوضع الفلسطيني وقراءة تكتيكات وتصريحات الأطراف، كان يدرك إلى أي مستوى من الانحدار وصل إليه الفعل السياسي الفلسطيني، الذي زاد انحدارا مع تلهّـف المسؤولين من هذا الطرف أو ذاك للوقوف أمام كاميرات الفضائيات quot;ليُـظهِـر بطولاته اللّـغويةquot;، وهو المستوى الذي لم يرتق رغم مرور 16 شهرا على حالة الانقسام وما جرّته على الفلسطينيين وقضيتهم من ويلات ومآسي وquot;فضائحquot;.

ويُـلاحظ أنه كلما كانت هناك تحرّكات واتّصالات ولقاءات لمحاصرة حالة الانقسام، إلا وتزخر الفضائيات بالفضائح والاتهامات المتبادلة، والتي تشمل انتهاكات حقوق الإنسان والفساد والقمع. وتقارير منظمات وهيئات حقوق الإنسان المستقلة تؤكِّـد صحة هذه الاتِّـهامات، لتخلص إلى أنه كُـتِـب على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع أن يكون تحت رحمة أجهزة، مهمّـتها الأساسية الاعتداء عليه وانتهاك حقوقه.

مخاطر التوتر الحمساوي الفتحاوي، أنه مقبل على انفجار دموي، لا تحمل كل التحركات الفلسطينية والعربية مؤشِّـرات على استبعاده، وبالتالي، إقبار الفلسطينيين قضيته بأيديهم.

الانفجار الدّموي، الذي يتوّج التوتر المندلع منذ تشريعيات يناير 2006 وأنتج انقساما في النظام السياسي للسلطة الفلسطينية وجغرافيتها/ الضفة الغربية تحت قيادة فتح، وقطاع غزة تحت قيادة حركة حماس، مُـقبل إذا لم يتوصّـل الفلسطينيون إلى صيغة توافُـقية لاستحقاق التاسع من يناير، موعد انتهاء ولاية محمود عباس (أبو مازن)، كرئيس للسلطة الفلسطينية، وهو ما تُـصِـر عليه حماس، مُـستندة إلى النظام الأساسي للسلطة (الدستور)، فيما تقول فتح إن الرئاسيات تكون متزامنة مع التشريعيات، أي في عام 2010، وِفقا لما ورَد في القانون المنظّـم للانتخابات.

وإذا كان لكل طرف فُـقهاؤه القانونيين، فإنه من المؤكد أن المسألة ليست خِـلافا أو اجتهادا فِـقهيا، بل خلافا سياسيا تتصاعد حدّته، ولكل طرف فيه حِـساباته الخاصة، بغضّ النظر عن تماهيها أو تنافيها مع مصالح الشعب الفلسطيني.

وشرعية رئاسة محمود عباس للسلطة، لم تكن محلّ خلاف، وطوال الشهور الماضية، كان الخِـلاف فقط حول شرعية حكومتَـيْ حماس في غزة وسلام فياض في الضفّـة، والوصول إلى يوم 6 يناير القادم بدون توافق، يعني وِفقا للقانون الأساسي للسلطة، إعلان حركة حماس لمحمد بحر، نائب رئيس المجلس التشريعي، الذي يوجد مقرّه في غزة، رئيسا مؤقتا للسلطة، وبقاء أبو مازن وِفقا لقانون الانتخابات، رئيسا في الضفة، وهذا ليس فقط يلغي المشترك السياسي الوحيد بين غزة والضفة، بل يحفِّـز أنصار كل طرف تحت سيطرة الطرف الآخر، للتحرك لزعزعته وزعزعة شرعيته، وهو ما سيقابل بالمزيد من القمْـع وانتهاك حقوق الإنسان، يتجاوز القمع والانتهاكات التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي.

نهاية مؤلمة للحركة الوطنية الفلسطينية

وتتوجّـه أنظار جميع المَـعنيين بالملفّ الفلسطيني إلى القاهرة، التي تتولى بمباركة عربية، تَـدبير الخلافات الفلسطينية - الفلسطينية، بعد التقارير عن مشروع مصالحة قدّم لجميع الفصائل، وكما يجري في كل المفاوضات التي تجري بالإكراه ولا يستهدف فيها الوصول إلى اتفاق، فإن أطراف الخلاف تُـعلن قبولها المبدئي وتسجِّـل تحفّـظات تكون ناسِـفة للاتفاق.

فإذا كان من الطبيعي أن يكون المشروع المصري أقرب إلى مقاربة الرئيس محمود عباس للأزمة وتسويتها، بحُـكم تقارُب الرؤى السياسية بين الطّـرفين، فإن القاهرة أخذت أيضا بعين الاعتبار للحيْـثيات وِجهة نظر كلّ من تل أبيب وواشنطن، رغم حالة البَـياض السياسي الذي تعرِفه كل منهما، وهو ما يدفع حركة حماس لا إلى رفض المشروع، بل إلى تسجيل تحفّـظات أعلنتها، وهي تحفّـظات حول الصِّـيغ الفضفاضة لجُـلّ الفقرات المتعلقة بآليات تسوية النِّـقاط المختلف عليها من جهة، ومن جهة ثانية، تحفّـظت على الربط بين التشريعيات والرئاسيات والربط بين تشكيل الحكومة ورفع الحصار عن قطاع غزة وإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية، والنص على عدم التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي.

ولأن قرار المُـصالحة الفلسطينية وإنهاء حالة الانقسام لم يتّـخذ بعدُ في فتح وحماس، لأنه لو اتّـخذ لكانت اللِّـقاءات في غزّة أو رام الله، فإن كل منهما يسعى لتجيير مستجدّات تعرفها الساحة الفلسطينية والإقليمية.

فالنسبة لفتح، تُـراهن على دعم سياسي دولي وعربي، خاصة مصري لسلطة الرئيس محمود عباس وحالة الحِـصار على قطاع غزة وما يمكن أن ينتجه من quot;نقمةquot; شعبية في القطاع ضدّ حماس وسلطتها، وتُـراهن حماس من جهتها، على إكراهات التاسع من يناير ومأزق عملية السلام مع إسرائيل وحالة الانقسام والتشتّـت الذي تعيشه حركة فتح على أبواب مؤتمرها الوطني، الذي لم يحدّد بعد زمانه ومكانه في ظل خلافات حادّة بين قيادتها، وفي المراهنتين، يبتعد الوطني ومستقبل القضية الفلسطينية.

وراء أي اتفاق، يكون لكل طرف نوايا وأهداف غير معلنة يسعى لتحقيقها، وبغضّ النظر عن حيثيات ومضمون وشكل نصوص اتفاقية أوسلو، التي أفرزت السلطة الفلسطينية، فإن إسرائيل سعت إلى تحقيق هدفها التاريخي بإنهاء القضية الفلسطينية، كقضية تحرُّرٍ وطني وشعبٍ له حقّ في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، والذي عجزت عن تحقيقه بحروبها كلها وبدعم الولايات المتحدة الأميركية، اقوي وأعظم دولة في التاريخ الإنساني، وذلك بإنهاء الفلسطينيين قضيتهم بأيديهم بتمزيق صفوفهم بين قابل ورافض للاتفاق، وإذا كانت حِـكمة وتجربة الرئيس الراحل ياسر عرفات قد أفسدت على إسرائيل تحقيق هدفها خلال السنوات العشر التي تلت الاتفاق بإيصال العالم إلى قناعة أن الفلسطينيين لا يستحقّـون، أو على الأقل لا يستطيعون إقامة دولة، وأن مستقبلهم ومستقبل دُول المنطقة وازدهارها، يكون بربط مصيرهم بهذه الدول، إن كان في الدمج أو الإلحاق الإداري، وهو ما كانت تطرحه من عقود عبر مشاريع سياسية كانت ترفض دائما، إن كان من الفلسطينيين أو من الأطراف العربية المحتملة إسرائيليا، لتحقيق ذلك.

إن ما آل إليه الوضع الفلسطيني في هذه المرحلة، هو الوضع المثالي والنموذجي لتحقيق الهدف الإسرائيلي، وضع يتّـسم بـ quot;عبقريةquot; الفصائل والنّـخبة السياسية الفلسطينية على quot;إنجازquot; النهاية المُـؤلمة للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.

محمود معروف